هل عزام الأحمد على صواب؟
قد يكون أهم تصريح صدر في خضم النقاش بشأن الانتخابات الفلسطينية هو لعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، عزام الأحمد، وقال فيه إن "حركات التحرّر لا تجري انتخابات". كما جاء في مقابلته مع موقع عربي 21 أن "السلطة اضطرّت لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية عام 2006 بعد وفاة الرئيس الراحل، ياسر عرفات". وتعيدنا هذه التصريحات إلى السؤال المكرّر، حول ما إذا كان الوضع الفلسطيني في الأراضي المحتلة اليوم أقرب إلى حركة تحرّر أو إلى نضال تجسيد الدولة الفلسطينية. هناك عناصر مقنعة للأمرين.
صحيح أن الاحتلال الغاشم مستمر، وان الوطن لم يتحرر من الاحتلال العسكري والاقتصادي، والاستيطان الكولونيالي مهيمن وضاغط على الصدر الفلسطيني. وصحيح أن المقاومة، بشكليها العسكري والجماهيري، لم تتوقف، على الرغم من أنها تراجعت كثيرا في زخمها وعنفوانها منذ الانتفاضة الأولى، وإعلان المجلس الوطني في الجزائر عام 1998 دولة فلسطين. وصحيح أن الجانبين، المدني والسياسي، خصوصا بعد اعتراف غالبية الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية، أصبحا الوضع المسيطر في المجال الرسمي الفلسطيني، حيث تم إغراء الفلسطينيين بالحكومات والإعلام والشكليات، ونسيان الأساس، أنهم تحت الاحتلال. أصبح موضوع الانتخابات ملحاً، لأن الثوار السابقين فقدوا بوصلتهم، وأصبحوا يتعاطون في البزنس والمشاريع الاقتصادية ومزايا الحياة المدنية. وفي الأوقات القليلة التي يكون ضروريا من "الثوار" المشاركة في مظاهرة جماهيرية، فإنهم يصلون إلى موقع المظاهرة في سياراتهم الفاخرة.
عندما اقترح محللون أن المصالحة يجب أن تسبق الانتخابات، رُفض الاقتراح بدعوى أن الانتخابات ستعطي شرعية لعملية المصالحة
تجري الانتخابات لأن الرقابة على عمل الحكومات تراجعت بسبب غياب مجلس تشريعي، وأصبحت محصورة ببعض مؤسسات المجتمع المدني أو نشطاء المعارضة، بعضهم من القاطنين في الخارج، والملاحقين في الوطن عند عودتهم على الأقل بالتهديد والوعيد، من دون أن يدافع عنهم الثوار في منازلهم الفاخرة. والأهم من هذا كله وذاك أن هدف الانتخابات، حسب من دعا لها، أمثال أمين سر حركة فتح، جبريل الرجوب، ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صلاح العاروري، هو تدشين عملية إنهاء الانقسام، والخروج من عنق الزجاجة، بممثلين منتخبين لمجلس تشريعي واحد ووحيد، يستطيع أن يوحد القوانين بين قطاع غزة والضفة الغربية، وينفذ إقامة حكومة وطنية موحدة، بهدف إنهاء الانقسام البغيض. وعندما اقترح محللون، ومنهم هاني المصري، أن المصالحة يجب أن تسبق الانتخابات، رُفض الاقتراح بدعوى أن الانتخابات ستعطي شرعية لعملية المصالحة، وأبعد من ذلك للمفاوضات التي ستتم برعاية الرئيس الأميركي، جو بايدن، المتعاطف مع القوى التقدمية العالمية ومع القضية الفلسطينية، على الرغم من معرفة الجميع أنه لن يلغي قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس الغربية. وموضوع القدس كان حاضرا في أول مؤتمر صحافي لرئيس اللجنة المركزية للانتخابات، حنا ناصر، لما قال ردّا على سؤال إن هناك بدائل في حال لم تسمح إسرائيل بإجراء الانتخابات في القدس، فهل كان يعتبر إلغاء الانتخابات العامة بديلا مقبولا؟
ليس واضحا إن كانت تصريحات عزام الأحمد خاصة به، أم إذا كانت تعكس ما يجري خلف الكواليس في اجتماعات مركزية "فتح"، ولكن الواضح أن التخبط وفردية القرار الفلسطيني بالرئيس أبو مازن أصبح الأمر السائد، وكل أمر آخر أصبح ثانويا.
الغريب أن الأداء الفلسطيني تحسّن كثيرا، فعلى الرغم من وجود الشك لدى بعضهم بأن القيادة جادّة في تنفيذ الانتخابات، إلا أن غالبية المواطنين والنشطاء اقتنعوا بأن القيادة في هذه المرة فعلا جادّة، وأن الانتخابات ستجري، ما جعل 93% ممن لهم الحق في التصويت يسجلون في قيود لجنة الانتخابات، ودفعت 36 مجموعة عشرين ألف دولار، واستقال المرشحون من مناصبهم، ودخلت الأراضي الفلسطينية في حراك سياسي لم تشهده منذ عقود.
لا علاقة حقيقية لما تسمى القيادة الفلسطينية بالشعب الفلسطيني، ولا بالمرشحين ولا بالقوائم الانتخابية، ولا بالقيادات الحقيقية في الوطن وخارجه
صحيح أن للرئيس أبو مازن صفة العناد السياسي، وهي صفة ثورية ضرورية ومفيدة أحيانا، إلا أن الشواهد كثيرة تشير إلى مصلحية القرار، وأن موضوع القدس فعلا كان "حجّة" لا أكثر ولا أقل. وعلى الرغم من العاطفية الجميلة والإصرار "الثوري" اللذين رافقا كلمة الرئيس، في هذا الشأن، إلا أن هناك شكا حقيقيا في دوافع القرار. قيل إن القيادة الفلسطينية اتخذته "بشبه إجماع"، وبما أن القيادة الفلسطينية ليست جسما قانونيا، ولا توجد محاضر لمعرفة من صوّت مع ومن صوّت ضد، فإننا ملزمون بقبول هذا التصريح الرسمي الذي بثته عبر فضائية فلسطين الرسمية.
قد لا نكون في مرحلة ثورة، ومؤكد أننا بعيدون عن فكرة الدولة الديمقراطية المستقلة، ولكن الشعب الفلسطيني ذكي، وله حساب طويل، ولن ينسى أو يتناسى ما تسمى القيادة، ولا هذا القرار الحزبي للحزب الحاكم بامتياز، وغير الوطني بامتياز. لقد بقي القادة صامتين، في حين تحرّكت كوادر تابعة للسلطة ولحركة فتح، تعيش على مخصّصاتهما ورواتبهما، في محاولة غير مقنعة للإيحاء بأنها تؤيد القرار دفاعا عن القدس، في حين أن القيادة تهمل القدس في قرارات يومية وميزانيات منذ عقود. المتجدّد في كل ما حدث أننا أصبحنا نعرف علم اليقين أنه لا علاقة حقيقية لما تسمى القيادة الفلسطينية بالشعب الفلسطيني، ولا بالمرشحين ولا بالقوائم الانتخابية، ولا بالقيادات الحقيقية في الوطن وخارجه، ولا اهتمام حقيقيا لها بمستقبل القضية الفلسطينية. لقد أصبح واضحا أننا كنا ضحية عملية خداع مكتملة العناصر. ومع أن المؤمن لا يُلدغ من الجحر مرتين، إلا أننا الآن نقولها بصراحة إننا تعلمنا الدرس، ولن ينفع السكوت فيما بعد.