هل غيّرت تركيا موقفها من الأسد؟
أطلق وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، الأسبوع الحالي، تصريحات مفاجئة بخصوص سورية، عندما قال إن أنقرة ستُقدم كل أنواع الدعم السياسي للنظام السوري، إذا ما قرّر مواجهة وحدات حماية الشعب الكردية. في حين أن التنسيق الاستخباراتي بين تركيا والنظام لم ينقطع خلال سنوات الصراع لدوافع أمنية بحتة، إلّا أن هذه المرّة الأولى التي يتبنّى فيها مسؤول تركي بارزٌ علناً خطاباً ودّياً نسبياً تجاه النظام. كانت أنقرة حريصةً باستمرار على عدم إضفاء أي طابع سياسي على التواصل الأمني والاستخباراتي مع دمشق، ورهنت إعادة العلاقات معها بإبرام تسويةٍ سياسيةٍ شاملة للصراع، لكنّ تصريحات جاووش أوغلو تكشف عن ميل تركي متزايد إلى الانفتاح الحذر والمشروط على الأسد، وتعكس أيضاً المعضلة الكبيرة التي تواجه تركيا في الموازنة بين سياساتها المبدئية القائمة على عدم الاعتراف بشرعية الأسد ودعم تطلعات السوريين بالحرية والديمقراطية والتكيّف مع التحولات الكبيرة التي طرأت على الصراع، والتي فرضت بدورها تغييراً على أولويات أنقرة الرئيسية في سورية.
لم يكن التحوّل في السياسة التركية إزاء سورية مستجداً، بل بدأ بالظهور في عام 2017 عندما انخرطت أنقرة في شراكة مع موسكو وطهران ضمن منصّة أستانة. تخلّت تركيا، منذ تلك الفترة، عن مشروع إطاحة نظام الأسد، وركّزت بدلاً من ذلك على مواجهة المشروع الانفصالي الكردي. في السنوات الخمس الأولى من عمر الصراع، كانت تركيا منخرطة بفاعلية، إلى جانب دول عربية وغربية، في مشروع إطاحة الأسد، وعملت على تسليح فصائل المعارضة السورية. لكنّ، عوامل عديدة برزت بعد ذلك، وضغطت على أنقرة لسلوك مسار آخر. أدى تراجع الولايات المتحدة عن الخطوط الحمراء التي رسمتها أمام النظام في قضية استخدام الأسلحة الكيميائية إلى توطّن قناعة لدى أنقرة بأن الغرب لم يعد راغباً بمواصلة الانخراط في الحرب ضد الأسد. كما أجّج تدخّل التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية والعراق المخاوف التركية من صعود المشروع الكردي. ثم جاء التدخل العسكري الروسي في 2015، وما أحدثه من تغيير دفة الحرب لصالح النظام، ليزيد من قناعة أنقرة بضرورة تغيير سياساتها السورية.
تنظر موسكو وطهران إلى أي تطبيع تركي محتمل مع دمشق أنه الجائزة الأكبر في مهمة إعادة تأهيل الأسد على الساحة الدولية
رغم أن تركيا سعت بدخولها في شراكة ثلاثية مع روسيا وإيران إلى إدارة المصالح المتضاربة للدول الثلاث في سورية، وتجنّب صدام عسكري معهما، إلّا أنها استطاعت توفير مساحة مقبولة لها للتحرّك العسكري ضد الوحدات الكردية مقابل دفع المعارضة في المناطق المتبقّية لها شمال غرب البلاد إلى القبول بتجميد الصراع مع الأسد. منذ أول تدخّل عسكري لها في سورية في 2016، شنّت أنقرة ثلاث عمليات عسكرية، درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، بموافقة ضمنية روسية. وباستثناء عملية درع الربيع، التي أدّت إلى أول مواجهة عسكرية واسعة بين تركيا والنظام، نجحت الشراكة الثلاثية في تطبيع نسبي للوضع الأمني في منطقة خفض التصعيد الرابعة في إدلب. كانت الشراكة مع روسيا مُغرية لتركيا على أكثر من صعيد، فمن جانب، منحت موسكو مشروعية ضمنية للتحرّك التركي ضد الوحدات الكردية. ومن جانب آخر، تطوّرت هذه الشراكة فيما بعد إلى تنسيق أوسع بين البلدين في قضايا ثنائية، كالتعاون في مجال الدفاع والطاقة، وفي قضايا إقليمية أخرى كجنوب القوقاز وليبيا.
مع ذلك، ظلّت أنقرة محافظة على عناوينها العريضة لاستراتيجيتها في سورية، لكنّ تطوّرات أخرى طرأت على الصراع في العامين الأخيرين، وضعت أنقرة في موقف ضعيف. أعادت بعض الدول العربية علاقاتها مع دمشق، فيما تعمّقت الخلافات مع واشنطن في ظل إدارة بايدن التي أعادت الاهتمام الأميركي بالشراكة مع الوحدات الكردية. في الوقت الراهن، تنظر موسكو وطهران إلى أي تطبيع تركي محتمل مع دمشق أنه الجائزة الأكبر في مهمة إعادة تأهيل الأسد على الساحة الدولية. عرض وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، في زيارته أخيرا تركيا الوساطة بين أنقرة ودمشق، بينما تسعى موسكو، منذ فترة، إلى إقناع تركيا بالدخول في حوار سياسي مع النظام. تتمثّل نقطة الضعف الرئيسية لتركيا في الحاجة إلى التعاون مع روسيا وإيران للقضاء على مشروع الحكم الذاتي الكردي. ويستغل الثنائي الروسي الإيراني هذه الحاجة للضغط عليها من أجل الانفتاح على الأسد. وقد برزت هذه الحاجة بشكل أكبر في ضوء معارضة موسكو وطهران الشديدة خطط أنقرة شن عملية عسكرية جديدة ضد الوحدات الكردية في منطقتي تل رفعت ومنبج غرب الفرات.
ينصب اهتمام أردوغان على إنجاح خطته لإعادة مليون لاجئ سوري إلى بلدهم عبر تأمين المناطق التي تُديرها بلاده في شمال سورية
منذ دخولها في شراكة ثلاثية مع روسيا وإيران، استطاعت أنقرة إبرام تفاهمات عديدة مع موسكو بمعزل عن طهران، ومن دون أن تُضطّر إلى تطوير تنسيقها الاستخباراتي مع النظام إلى حوار سياسي. لكن الشراكة الروسية الإيرانية، التي أخذت بُعداً استراتيجياً بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، تدفع موسكو إلى الأخذ بالاعتبار مصالح طهران في سورية. في حين أن الظروف المحيطة بتحوّل النبرة التركية تجاه النظام السوري تتعلق، بشكل رئيسي، بمستقبل منطقتي تل رفعت ومنبج، فإن تصريحات جاووش أوغلو المثيرة يُمكن النظر إليها استعدادا تركيا للقبول بتسوية تتضمن سيطرة النظام على هاتين المنطقتين مقابل تعاون أوسع مع النظام وحلفائه ضد الوحدات الكردية. مع ذلك، حصول مثل هذا التعاون في المستقبل المنظور لا يزال يواجه تعقيدين رئيسيين، الأول أنّه سيفتح الباب على نقاشٍ بشأن مستقبل المناطق التي تُديرها تركيا في شمال سورية، والثاني القلق التركي من العلاقة التي تسعى دمشق وموسكو إلى إقامتها مع الوحدات الكردية. سيسعى بوتين، على الأرجح، خلال استضافته الرئيس التركي، أردوغان، في سوتشي الأسبوع المقبل إلى تقديم ضمانات لأنقرة بهذا الخصوص.
بالإضافة إلى مسألة الوحدات الكردية، تبرز قضية اللاجئين نقطة ضغط إضافية على أنقرة لإعادة علاقاتها مع دمشق. ينصب اهتمام أردوغان على إنجاح خطته لإعادة مليون لاجئ سوري إلى بلدهم عبر تأمين المناطق التي تُديرها بلاده في شمال سورية وتوسيع حدود المنطقة الآمنة التي أقامتها. في ظل المعارضة الروسية الإيرانية أي تحرّك عسكري تركي جديد في شمال سورية، وفي ضوء حاجة أردوغان إلى إنجاح هذا المشروع قبل الانتخابات المزمعة منتصف العام المقبل، فإن من شأن التنسيق الأمني مع النظام ضد الوحدات الكردية والدخول في حوار سياسي مع دمشق أن يعززا فرص تحقيق هذا المشروع. سيتوقف الأمر، بالدرجة الأولى، على مدى ترجمة التعهّدات التي أطلقها قادة تركيا وروسيا وإيران في قمة طهران، بالتعاون في مكافحة الإرهاب إلى خطوات عملية. ستكون قمة سوتشي المرتقبة بين بوتين وأردوغان حاسمة بهذا الخصوص. على المدى المنظور، من المستبعد أن تُقدم أنقرة على إعادة العلاقات مع دمشق، لكنّ خطواتٍ من قبيل التعاون في قضيتي الوحدات الكردية واللاجئين، وصولاً إلى دفع مسار التسوية السياسية، ستُعبد الطريق أمام إعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق.