هل كان ممكناً تفادي غزو العراق؟
ليس ثمّة وجع في إبريل/ نيسان أكثر من تذكّر واقعة سقوط بغداد بيد الأميركيين قبل 19 سنة. في حينها، كانت بغداد تنوء تحت وقع الضربات الأميركية كل ساعات الليل والنهار، ولم يكن مشهد الجنود الأميركيين وهم يمشون في شوارعها وأزقتها بعد أيام من وصولهم إلى ساحة الفردوس، وسط بغداد، مثيرا للغرابة فحسب، إنما كان مشهدا مستفزّا وصادما في آن، فما لم يتوقعه المواطن العادي المغلوب على أمره الذي أرهقته شعارات المواجهة حتى النصر، أصبح ماثلا أمامه على نحوٍ لا يقبل النفي.
في تلك الساعات المغرقة في العتمة، الموغلة في الكآبة، كنت أحاور كادرا بعثيا متقدّما جاءني ببيان باسم "حزب العودة"، يدعو الناس إلى المقاومة لنشره في الصحيفة الدولية التي كنت أراسلها من بغداد، وقد صارحته برأيي في أن دلالة اختيار مفردة "العودة" واضحة، وأن رفع شعار "العودة إلى السلطة" في هذا الوقت بالذات ليس أمرا موفقا، وأن ما يجري أمام عيوننا ينبغي أن يدفع إلى تأمل الحال، للخروج برؤية نقدية صارمة توفر متطلبات الحد الأدنى للمواجهة، وابتكار سبل وصيغ غير مألوفة تعتمد على تجميع كل الوطنيين لمقاومة المحتلّين الذين لن يتركوا الغنيمة بسهولة. وأدركت، وإنْ لم يُفصح لي صراحة، أنه يشاطرني رأيي، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئا، ولا حتى أن يقول شيئا. وفي تلك الأيام الحرجة، بدا الإعلان عن "حزب العودة" مجرّد فكرة مهووسة لكادر بعثي اعتاد أن يرى الواقع الماثل أمامه من وراء نظّارات ملوّنة. وعلى أية حال، طويت صفحة "حزب العودة" بعد شهور قليلة، بعدما أصبحت العودة إلى السلطة أمرا دونه خرط القتاد.
مشهد الجنود الأميركيين وهم يمشون في شوارع بغداد وأزقتها كان مستفزّا وصادما في آن
تكررت "نيسانات" الوجع سنة بعد سنة، حتى تحوّل نيسان الذي عرفناه في فتوتنا وشبابنا الشهر الذي يزدهر فيه الحب، وتتفتح الأزهار، ويبدأ به الربيع، إلى غول أسود يُطبق علينا كلما فتحنا عيوننا على وهج الشمس الذي بات يصل إلينا من عوالم بعيدة. لكن مرور السنين جعلنا نستردّ بعضا من قدرتنا على المراجعة والتأمل، والتفكير في ما يمكن أن يدفعنا إلى التقدّم خطوة قد نتراجع بعدها خطوتين لأسباب ضاغطة، أو قناعات مستجدّة، أو لأن اليأس قد يدركنا ليضعنا في غير الموضع الذي نريده لأنفسنا.
وبعد كل هذه الحفنة من السنين، نقف اليوم على عتبة العقد الثالث بعد الغزو، ولا يزال ثمّة سؤال يتردّد في أذهاننا: أما كان بالإمكان تفادي الغزو وإبعاد شبح الخراب عن العراق وعن العالم العربي كله؟. الإجابة: نعم، وإن كانت هذه الإجابة قد تثير عديدين ممن يبرّرون وقوع الغزو والاحتلال وتداعياتهما على العراق والأمة بأنه كان مخطّطا له منذ عقود. ولم يكن ثمّة سبيل لتفاديه، وبتعبير مسؤول في النظام السابق، "جاء نتيجة مؤامرة كونية وراءها قوى كبرى لا تتكافأ إمكاناتنا مع إمكاناتها بغرض إسقاط نظامنا وتدمير بلدنا، وكنا ندرك أننا إذا ما نشب النزال سوف نُهزم". وبالطبع، يعبّر هذا المنطق عن عجز، ويعكس رؤية قاصرة للواقع، تتيح لصاحبها شعورا بالرضا عن النفس فحسب.
دائرة الفعل ضد العراق من القوى المعادية اتسعت بعد قرار تأميم النفط في منتصف سبعينيات القرن
صحيحٌ أن "المؤامرة" على العراق ذات خلفية تاريخية قديمة، لكن المعروف أيضا أن دائرة الفعل ضده من القوى المعادية اتسعت بعد قرار تأميم النفط في منتصف سبعينيات القرن الذي وجه ضربة كبيرة إلى الغرب. ومنذ ذلك الوقت، كان على العراق أن يقرأ ما يدور من حوله بعناية، وأن يبتكر الحلول والمعالجات الكفيلة بصدّ الأزمات ومواجهة التحدّيات على نحوٍ يحفظ للبلاد سيادتها وسلامتها، ويرسّخ موقعها دولة إقليمية فاعلة، خصوصا وأنه يمتلك إمكانات وثروات هائلة ومئات الآلاف من البشر المؤهلين، إلا أن الانقلاب السياسي الذي قاده صدّام حسين ضد حزبه في نهاية عقد السبعينيات اتجه بالبلاد إلى نظام شمولي أفقد العراقيين فرصا كانت سانحة أمامهم لإنجاز تحوّلات تعينهم على الثبات والتقدّم، ومهّد لتكريس دور الحاكم الفرد، وجرّ إلى سلسلة من المغامرات العسكرية والتجاذبات السياسية التي أوجدت بيئةً إقليمية محتقنة وقلقة، وفسحت المجال أمام القوى المعادية لتنفيذ مخطّطها الشرير في الغزو والاحتلال تحت كومةٍ من الذرائع الكاذبة.
وهكذا، فإن عدم القدرة على إدارة الأزمة منذ البداية، وفقدان البوصلة التي تعين على ذلك، أودى بالبلاد إلى الهاوية التي نحن فيها اليوم: دولة بلا سيادة، وحكومة فاسدة، وثروة منهوبة، ومجتمع منقسم مشوّه.
وبعد.. هل كان ممكنا تفادي الغزو؟ الجواب: نعم.