هل ما زال الحياد ممكناً في أوكرانيا؟
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي "تجاهد" دول عدة، نتيجة طبيعة المصالح التي تربطها بطرفي النزاع الرئيسين (روسيا والولايات المتحدة)، للحفاظ على موقف غير منحاز في الصراع. الآن وبعد ثمانية أشهر، صار واضحا مدى صعوبة الحفاظ على هذا الموقف، إذ بلغت الحرب مراحل حاسمة، في ضوء تنامي الدعم الأميركي لأوكرانيا، بعد أن لاحت إمكانية هزيمة روسيا، في تحوّل عن السياسة الأصلية التي قامت على منعها من تحقيق انتصار سريع، وتهديد روسيا، في المقابل، باستخدام أسلحة نووية إذا صارت هزيمتها وشيكة. بناء عليه، أخذت الضغوط تتزايد على مختلف الدول، الوازنة منها خصوصاً، لحسم أمرها، بعد أن صارت واشنطن تعتبر أنّ نتيجة حرب أوكرانيا سوف تقرّر مستقبل النظام الدولي باتجاه استمرار الهيمنة الأميركية عليه، عبر هزيمة روسيا، ومن خلالها، إضعاف الصين، أو باتجاه فقدان زمام المبادرة وتسريع عملية انحدارها.
ومن الدول التي تحظى مواقفها من الحرب في أوكرانيا بأهمية الصين والهند وإيران وتركيا والسعودية وإسرائيل. وقد بدا لافتاً أنّه، رغم ارتفاع منسوب التوتر في العلاقة مع واشنطن، بسبب تايوان والحرب التجارية، فإنّ الصين تفعل ما في وسعها لتجنّب الاصطدام مع الغرب. فهي وإن كانت ترفض العقوبات الغربية على روسيا، وتستمر في شراء النفط والغاز منها، إلّا أنها تمتنع في المقابل عن تقديم أي دعم لها، سواء في المنظمات الدولية، خصوصاً في الأمم المتحدة، وصولاً إلى اتخاذ مواقف مناقضة لموسكو بتأكيدها على احترام وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها. أما عسكرياً، فقد امتنعت الصين عن تزويد روسيا بالسلاح، رغم أنّ لها مصلحة حقيقية في منع هزيمة موسكو في أوكرانيا، كما امتنعت عن تقديم دعم اقتصادي فعلي لها في مواجهة الضغوط الغربية. بالنسبة لواشنطن يعد مجرد التزام الصين الحياد هنا أمراً إيجابياً، أخذاً بالاعتبار تعقيدات العلاقة الأميركية - الصينية. وفي مؤشّر على ذلك، يخطط الرئيس بايدن للقاء نظيره الصيني على هامش قمة العشرين في إندونيسيا منتصف الشهر المقبل (نوفمبر/ تشرين الثاني). أما الهند، فهي وإن كانت تبدي التزاماً بعلاقاتها التاريخية الوثيقة مع موسكو، فإنّها تسلك أيضاً سلوكاً انتهازياً في الأزمة، إذ تستمر في شراء النفط والغاز الروسي بأسعار مخفضة، لكنّها تمتنع، في المقابل عن تقديم أيّ دعم لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، وتستمر في تطوير تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن، لمواجهة الصين.
على مدى ستة أشهر، حاولت إيران الموازنة بين مواقف المرشد الذي يعتبر أنّ روسيا تدافع عن أمنها في أوكرانيا في وجه هجمةٍ غربيةٍ يقودها "الناتو"، وبين الحكومة التي ما زالت تأمل في إحياء الاتفاق النووي ورفع العقوبات الأميركية، والحفاظ على علاقات قوية مع أوروبا. لكنّ إيران حسمت أمرها في ما يبدو أواخر الصيف، عندما قرّرت تزويد روسيا بالمسيّرات التي تستخدم اليوم في قصف المدن الأوكرانية، وهو أمرٌ ستكون له انعكاسات كبيرة على علاقات إيران بالغرب وعلى مستقبل الاتفاق النووي.
ومثل إيران، حسمت إسرائيل، هي الأخرى، أمرها، في ما يبدو، بعد طول تردّد، إنّما في الاتجاه المعاكس، فبعد شهور من المناورة بين روسيا والولايات المتحدة، تتجه اليوم إلى تزويد أوكرانيا بأسلحة مضادّة للمسيّرات الإيرانية، ما يعني أنّ علاقتها بروسيا تسير نحو الصدام، وسيظهر ذلك بوضوح على الساحة السورية، التي تحكمها تفاهماتٌ روسية - إسرائيلية منذ عام 2015.
السعودية، التي أثارت غضب واشنطن، أخيراً، نتيجة قيادتها "أوبك" بالتعاون مع روسيا، لخفض إنتاج النفط لكبح انهيار الأسعار باتت هي أيضاً في وضع يتطلب اتخاذ موقفٍ واضح من الحرب الأوكرانية، وتبدو المساعدة التي أقرّتها الرياض لأوكرانيا بقيمة 400 مليون دولار، خطوة باتجاه الاستجابة لهذه الضغوط، على الأقل ريثما تتضح لها نتائج الانتخابات النصفية الأميركية. أما تركيا، التي تستمر في محاولة تحقيق توازن بين مصلحتها في منع انتصار روسيا (من خلال تزويد أوكرانيا بالسلاح) وحماية مصالحها الاقتصادية الكبيرة مع موسكو، بما في ذلك التحوّل إلى مركز إقليمي لتوزيع الغاز الروسي، فسوف تجد صعوبةً متزايدةً في الحفاظ على هذا الموقف. هذا يعني أنّ الهوامش باتت تضيق أمام الجميع مع احتدام حدّة المواجهة وإصرار الغرب على هزيمة روسيا في أوكرانيا.