هل من سوري سيقول: أنا عائد لأموت في وطني؟
أستيقظ اليوم، في صباح من صباحات برلين الباردة، المخاصمة للشمس حتى بنورها، يتردّد في خلدي قول الشاعر القروي: بنت العروبة هيّئي كفني/ أنا عائدٌ لأموت في وطني.
لا يتردّد أغنيةً أو ترنيمة، ولا تعويذة تسندني في بلاد الغربة، بل كما المطارق في رأسي، وكأنني أنهض من كابوس في ليلي الطويل، يجرّ خلفه سؤالًا: هل علينا العودة إلى الوطن فقط لأجل الموت؟ نحن نموت كلّ يوم، واقعًا ومجازًا، في الداخل وفي الخارج، فما الذي دفع أبناء هذا الوطن الذي يعود إليه الشاعر طامحًا، وطامعًا، بالموت ليس أكثر، إلى التشرّد والضياع في دروب الحياة الشائكة والمريرة، غير الموت الذي يزاحم الحياة فيها؟ الموت بتعدّده اللا موصوف، لا أحد إلى اليوم محصّنٌ تجاهه غير قادة الحرب وأمرائها، هؤلاء موتهم مؤجّل، وربّما، في بلادٍ تهوي كلّ يوم بمزيد من التسارع إلى الهاوية، أخذوا لقاحات تزيد في مناعتهم والتصاقهم بكراسي السلطة، مدعومين من الخارج القوي، بكل أشكال السلاح والعتاد، مقابل ماذا؟ مقابل إدارة اقتصاد الحرب، وتأمين حطبها من أبناء الشعب، اقتصاد قائم على بيع أصول البلاد، أو تأجيرها، التي هي للشعب في أعراف العالم مجتمعًا، والتاريخ، والمنطق، ليس منذ نشوء الدول، بل حتى منذ العيش في جماعاتٍ وقبائل، فحتى يؤمن الفرد بانتمائه للجغرافيا والتاريخ الذي يعيش في كنفهما، يلزمه، قبل كل شيء، أن يقبض على أسباب هذا الانتماء وأدواته، كي يؤمن بواجب الدفاع عن هذا الحيز الذي يسمّى وطنًا.
لم يعد هناك وطن بالفعل، فسورية مقسّمة، وشعبها مقسّم، بل مشرذم، هذا ما فعلته الحرب، في نسيج اجتماعي مهلهل في الأساس
الحنين إلى الوطن، أو ما اشتهر بتسميته بالإنكليزية : Homesickness، لم يعد كما كان في الماضي، فإذا كانت أهم أعراض هذا المرض الناجم عن اضطراب عاطفي الشعور بالضيق، والرزوح تحت ضغط الحنين الذي يعيق في الاندماج مع البيئة الجديدة، ويؤدّي إلى الرغبة بالعزلة والانكماش عن مواجهة العالم الخارجي، والميل إلى الكآبة، بل الدخول في الاكتئاب، وغيرها من أعراض واضطرابات عاطفية وسلوكية، فإن هذه الحالة لم تعد حكرًا على من غادروا وطنهم، بل إن من بقوا يعانون منها وربما أكثر، يكفي الشعور بأنه لم يبقَ هناك وطن، كي يعاني الفرد من هذا المرض الذي يصل ببعضهم إلى درجة الداء وخطورته. لم يعد هناك وطن بالفعل، فسورية مقسّمة، وشعبها مقسّم، بل مشرذم، هذا ما فعلته الحرب، في نسيج اجتماعي مهلهل في الأساس، وما كان من مظاهر الاستقرار والعيش "الآمن"، لم يكن سوى صورة غشّاشة ومغشوشة، تحت خيمة شعاراتٍ جوفاء عن الوطن والوطنية و"العروبة والقومية"، والتقدّمية والعلمانية وغيرها من الشعارات الواعدة، مقابل الوقوف إلى جانب "الدولة" في صمودها وممانعتها كل أشكال الهيمنة والسيطرة وانتهاك البلاد، كأسمى شرط وغاية من شروط الانتماء إلى الوطن، من دون أن يكون لهذا المواطن المنتهك حقّ تقرير مصيره ومصير بلاده، ليصير على هذه الشاكلة، بلا وطن.
قبل السؤال عن الوطن، من الجدير السؤال عن الدولة، فعندما يعيش المواطنون تحت خط الفقر، ويُرفع الدعم عن أساسيات حياتهم بالتتالي، من موادّ غذائية أساسية إلى محروقات إلى صحة وطبابة، من دون أن يكون هناك زيادة في الدخول لسدّ العجز الواقع عليهم. وعندما يصبح التعليم حلمًا بتراجع التعليم الحكومي مقابل تغوّل التعليم الخاص، وعندما يصبح المرض وحشًا يهدّد سكينة الفرد ويسكنه القلق على صحته وصحة أولاده، وعندما يفقد المواطنون الأمان والأمن في حياتهم، فتتفشّى الجريمة بكل أشكالها، وما أكثرها في كل المدن والمناطق السورية اليوم، وعندما تفتقد المدن البنية التحتية في كل مرافقها، من طرقات وشبكات ووسائل تنقّل وخدمات عامة وغيرها، بينما تُجبى الفواتير والضرائب عن هذه الخدمات المفقودة، وعندما ينخر الفساد كل شيء بعزم وقوة أكثر من قبل، من دون رقيبٍ ولا محاسبة، وعندما تصبح أدوات الاقتصاد وأركانه مشلولةً وشبه عاجزة عن النهوض، وعندما لا تستطيع الحكومات وضع خطط وتنفيذها لإنقاذ الحياة العامة وجعلها تدبّ خطوة إلى الأمام .. ذلك كله، وغيره الكثير، يؤكّد أن الدولة بحاجة إلى إعادة النظر في أهليتها، بل في وجودها بحدّ ذاته، فهل يمكن الحديث بعد هذا عن وطن؟ ما الوطن إذا لم يكن للفرد حق العيش في كنفه، تحت سلطةٍ تدير حياته مع غيره، ينتخبها ويكلّفها بإدارة شؤونه تحت رقابته؟
مفجعٌ أن يكون الوطن مقبرة ليس أكثر، وأن يصير كابوسًا يؤرّق ليالي من هم فيه، يبحثون عن دفّة خلاصٍ فلا يجدونها
في ما وصلت إليه سورية، وفي واقع الشعب السوري المنهك، المشتّت، الذي يعاني في الداخل والخارج، تغيّر الإحساس بالوطن، صار بالنسبة إلى غالبية أبنائه يشبه ابنًا مصابًا بمرضٍ عُضال، تمتد به السنوات ويمتد أنينه ومعاناة والديه به، لا يستطيعان إطلاق رصاصة الرحمة عليه، ولا يملكان غير الارتباط بمعاناته بعقدةٍ عصيّةٍ على الفك، أو قيد يدمي معصميهما، هو الابن العاجز، وربما هما الأبوان العاجزان الموثوقان إلى رقاب أبنائهما، يحملانهما على الظهر ويدوران ضمن دائرة الموت المحيطة بهم، تتهدّد الجميع وتمنعهم من المضي إلى الأمام، فيقضون حياتهم في هذه الدائرة العدمية، فأي الأوطان هذه التي ستصيبنا بالحنين حدّ المرض؟ إنها صارت المرض بحدّ ذاته، لن تكون لنا حياة من دون علاجها، وأول العلاج أن نلتقي على قلبٍ واحدٍ واعتراف بما اقترفنا، عندما وثقنا بمن ادّعوا أنهم قادتنا نحو المستقبل، فنهبوا أرواحنا وضمائرنا ونفوسنا وخيراتنا، وأفقدونا أوطاننا، وما زالوا على كراسيهم يديرون مفاوضاتهم وبازاراتهم بما تبقى من كرامتنا.
لا أظن أن سوريين كثيرين حريصون اليوم على العودة إلى الموت في الوطن، هناك حيث الموت الرخيص، والقبور مرتفعة الثمن حدّ أن يصبح الموت عبئًا أكثر من الحياة، بل غالبية من هم في الداخل يتلهفون إلى الهروب، حتى لو غرقًا حتى الموت. مفجعٌ أن يكون الوطن مقبرة ليس أكثر، وأن يصير كابوسًا يؤرّق ليالي من هم فيه، يبحثون عن دفّة خلاصٍ فلا يجدونها، وكل يوم زيادة يحمل إليهم عذاب القبور وهم محسوبون على الحياة، بل المفجع أيضًا أن يتشوّش مفهوم الحنين، ولا يعود يلاقي له مكانًا في وجدان السوريين.