هل ننتظر "إخوتنا الغرباء" كي ينقذونا؟
"عندما يستعرضون مساركم، لا يرون فيه سوى الضراوة والجشع والنزعات القاتلة، يعتقدون أنكم عاجزون عن استخدام قوتكم لشيء آخر سوى الهيمنة والقهر، لا يصدّقون إطلاقاً مبادئكم التي تجاهرون بها، ولا تعهّداتكم التي تقطعونها".
هذا الكلام جاء على لسان واحد من "إخوتنا الغرباء"، الذين كتب عنهم الروائي اللبناني/ الفرنسي، أمين معلوف، روايته الصادرة أخيراً تحت هذا العنوان، وهو يمثّل الجماعة التي أوكل إليها الكاتب مهمة انتقاد حضارتنا المحكومة بالفناء بما أوصلتنا، أو أوصلناها، إلى هذا المستوى من الضلال الذي يحمل أسباب انهيارنا الوشيك.
لم ينهض العالم بعد من كابوس كورونا، وما استجلب من ويلاتٍ على الدول والشعوب، وما استنزف من موارد مالية ولعب بعجلة الاقتصاد في العالم، حتى جاء كابوسٌ آخر، رماه في ليل الشعوب الذاهلة، ولم تستيقظ من ذهولها بعد، رجل واحد. خلال أقل من أسبوع، استطاع فلاديمير بوتين أن يرجّ العالم، ويبلبل نظامه، ويجعل قادته يلهثون ويصلون الليل بالنهار من أجل اجتراع تدبيرات، راهنة وأخرى مستقبلية، من أجل مواجهة جموحٍ لم يكن من الممكن تصوّره، لكنّه وقع بأسرع ما توقع العالم على الرغم من مقدّماته الكثيرة.
إن كانت هذه المجموعة التي يصوّرها أمين معلوف في روايته هذه تمثل قوّة مخلّصة ما من غيّ القادة والأنظمة التي تحكم العالم اليوم، فإنّه أيضاً يشير إلى مدى سلطتها وأيّ دور ستمارس، وهل ستستند إلى سلطة قانونٍ ما، أم أنّها ستمارس السيادة وفق تطوّرها العلمي الذي يفوق ما وصلت إليه حضارتنا؟ يذكّرنا هذا الطرح بالمراسلات بين آينشتاين وفرويد في عام 1932، عندما طلبت المنظمة العالمية للتبادل الثقافي من آينشتاين أن يدعو شخصاً يختاره للنقاش بشأن مسألة يقترحها، فاختار آينشتاين أن يجري حواره مع فرويد، والموضوع الذي اختاره "لماذا الحرب؟" ليس فقط لماذا الحرب، بل محاولة لفهمها وفهم أسبابها ودوافعها النفسية، على الصعيد الفردي أو الجمعي. وعليه، يمكن طرح السؤال: كيف يمكن الجنس البشري أن يوقف الحروب؟ هذا السؤال الذي ما فتئ يشغل بال المفكرين والمثقفين والنخب والعلماء في مجالاتٍ متنوعة، في كلّ المناطق والأزمنة، من دون الوصول إلى نتيجةٍ مؤكدة، فالحروب، على ما يُظهر التاريخ، هي السمة الأصيلة أو الغالبة لسلوك البشرية. ولكل حقبة، أو مرحلة من مراحل تطوّر حياتها، مبرّرات مضافة إلى المبرّرات المعهودة للحروب.
سلطة القانون لم تعد خاصةً بالدولة فقط، بل هناك اليوم، قوة ترسم قوانين العالم، وهي محصلة قوى يديرها المال والاحتكارات والشركات العملاقة المتحكمة بالاقتصاد الراهن
يقترح آينشتاين تأسيس هيئة عالمية، أو ما يشبه محكمة عالمية، تخضع كلّ أمةٍ لقراراتها، وتلتزم بها التزاماً غير مشروط، وتتكوّن هذه الهيئة من العلماء والمفكرين، وليس من السياسيين العاديين، ويتساءل، وهو الذي اعتبر أنّ الطبقة الحاكمة في كلّ أمة تشكّل أقليّة: كيف لهذه المجموعات الصغيرة المسيطرة، أو لنقل الأقلية، أن تشغل الأغلبية لخوض الحروب وحمل الأسلحة خدمةً لطموح هذه الأقليات؟ يجيب نفسَه: نعم، ذلك ممكن من خلال سيطرة تلك الأقليات على المراكز الحسّاسة، المدارس والصحافة والكنائس، ما يعني القدرة على صياغة عواطف الجماهير. لكن كيف لها أن تقنع الإنسان بالتضحية بحياته؟ هل هي الكراهية؟ وهل هناك من وسائل تحمي من هذه الكراهية والنزعة إلى التدمير؟ هل يمكن طبقة المثقفين أن تُحدِث الفارق "التنويري"؟ وهل يملكون التأثير الفاعل على الناس؟
يرى فرويد أنّه بتشكل المجتمعات البشرية، جرى نقل العنف من الفرد إلى المجموعة، أو الانتقال من سلطة العنف إلى سلطة القانون، فإذا كان آينشتاين يرى إلى إمكانية إنشاء هذه المنظمة أنّه يمكن أن يكون لها دور وقدرة على قيادة العالم، فإنّ ذلك ينقل السلطة من العنف إلى سلطة القانون، واحتكار أكبر للعنف في العالم. لكنّ سلطة القانون لم تعد خاصةً بالدولة فقط، بل هناك اليوم، في عصر العولمة، قوة أخرى ترسم قوانين العالم، القوانين التي ليست ثابتة، بل تتغيّر بحسب أهواء هذه القوة العالمية ومصالحها، وهي محصلة قوى يديرها المال والاحتكارات والشركات العملاقة المتحكمة بالاقتصاد الراهن.
نحن شهود مكشوفون ومخذولون على ما وصلت إليه الحضارة في عصرنا الراهن من جنون وتغوّل وقدرة على الشر وامتلاك أدواته
الوقوف بجانب الشعوب وقضاياها المحقة أمرٌ أخلاقي، ومناهضة العنف والتمادي على حياة الناس، ونصرة المظلومين والمعتدى عليهم أمر أخلاقي أيضاً، وهذا أضعف الإيمان في ما لو لم نملك القدرة على إيقاف الحروب والتأثير في القرارات ولجم جموح السياسة والسياسيين في تحقيق مشاريعهم وطموحاتهم بالقوّة، حتى لو لم نفهم بالسياسة كما يجب، لكنّ القضايا الأخلاقية لا تحتاج إلى فهم بقدر حاجتها إلى ضمير حيّ. والمعروف أن القيم والأخلاق تتأثر في حالات الحروب وتهديد الوجود، بشكل خاص في ظل عدم الفهم أو التضليل والحرب الإعلامية والنفسية التي تمارسها الأطراف المتحاربة بحق بعضها، وهي وافرة الأدوات في العصر الحالي، إذ ترصد قنوات ووسائط عديدة مشاهد كثيرة فبركتها الأطراف المتصارعة، منها ما هو مأخوذ من ألعاب إلكترونية، وهذا ما يُحدث الانزلاق نحو الأوهام، ويزيد العصبيات والكراهية. وهنا يأتي دور النخب والمثقفين، حماية الوعي بالدرجة الأولى. وحتى يجوز لهم هذا الدور، فإنّهم يجب أن يبتعدوا عن الاصطفاف السياسي والأحكام المتسرّعة والسلوكيات الانفعالية، كما صدر عن جهات محسوبة على الثقافة والفن من سلوكيات مشابهة، بعضهم تراجع عنها، مثلما حصل مع الأستاذ الجامعي الذي مُنع من إلقاء دروسه عن دوستويفسكي في إحدى الجامعات الإيطالية. مطلوب من النخب الدفاع عن الجانب المشرق في الحضارة الإنسانية.
لم يخطئ آينشتاين عندما اختار موضوع الحرب للنقاش مع فرويد، وأن يقترح إنشاء تلك الهيئة العالمية من العلماء والمفكرين، حتى لو كان مطلباً مثاليّاً ونظريّاً، فنحن شهود مكشوفون ومخذولون على ما وصلت إليه الحضارة في عصرنا الراهن من جنون وتغوّل وقدرة على الشر وامتلاك أدواته. فالتكنولوجيا تهيّئ ما يخدم نزعات الهيمنة والسيادة، والتضليل ينمّي الضغائن والكره والتعصّب، فأي عالم يمكن أن يصمد أمام الكارثة الماثلة في أفقنا على الدوام؟ أي شيء يمكن أن يمنع وقوعها؟
الحروب، على ما يُظهر التاريخ، هي السمة الأصيلة أو الغالبة لسلوك البشرية. ولكلّ حقبة، أو مرحلة من مراحل تطوّر حياتها، مبرّرات مضافة
أنهى ستيفان تسفايغ حياته مخذولاً، ولم ينتظر كي يرى النتائج التي آل العالم إليها بعد وقف الحرب العالمية الثانية، مات رافضاً أن يرى الانحطاط والهمجية، وقد جرّ العالم إليهما قادة مهووسون بالقوة، يجنّدون الشعوب خلف إيديولوجيات دمّرت العالم، من فاشيةٍ في إيطاليا ونازية في ألمانيا وبلشفية في روسيا، لم ينتظر وكأنه كان يقرأ المستقبل، بل قرأه عندما قال: "وتبقّى لنا أن نرى ثانية حروباً لا يُعلن عنها، ومعسكرات اعتقال واضطهاداً، ولصوصية جماعية وغارات على مدن عاجزة عن حماية نفسها". ويرى أنّه "أن أؤدّي شهادة على هذه الحياة المتوتّرة المثيرة الحافلة بالمفاجآت، أمر يبدو لي واجباً".
أين هو واجب المثقفين والنخب؟ هل من المقبول أن يُذعنوا لأغبى السياسات وأكثرها همجية، أم أن يحموا الضمير الإنساني والروح الإنسانية التي لا تزدهر إلّا بالثقافة والفكر والإبداع؟ مات تسفايغ وهو يرى أنّ شهادة المثقف ضرورية من أجل حفظ الحقيقة وحمايتها من زور التاريخ الذي يكتبه الأقوياء: "إذا استطاعت شهادتنا أن تنقل إلى الجيل التالي ذرّة من الحقيقة عن هذا البنيان المتفسّخ، فإنّ عملنا لن يذهب كلّه سدى". في الواقع، ليست شهادته فقط هي الضرورية، بل فعاليته المواكبة لجنون السياسة التي ستأخذ العالم إلى الهلاك... أم علينا أن ننتظر "إخوتنا الغرباء" أو غير المتوقعين كي ينقذونا من ضلالنا، ويمنعوا انهيار عالمنا كما لو كان من ورق؟