هل يجوز لنا انتقاد حماس؟
في وجهةٍ ما، يبدو السؤالُ أعلاه نافلاً، لأنه يجوزُ لنا انتقاد حركة حماس. والمقصودون نحن الذين في ضفّة من يساندون المقاومة الفلسطينية، ومن يقيم فيهم إعجابٌ ببسالة المجاهدين الشّجعان في كتائب الشهيد عزّ الدين القسام، وإخوانهم في فصائل أخرى، وهم يحاربون في معركةٍ كبرى ضد المحتلّ الغازي في غزّة. وفي الوجهة نفسها، يكون السؤال نافلاً أيضاً، لأن ما من أحدٍ لديه سلطةُ أن يُجيز أو لا يُجيز في أمرٍ كهذا. ... غير أن المسألة ليست بالبساطة هذه، فإنها السذاجة بعينِها أن يُكتفى بنعم أو لا في الإجابة عن هذا السؤال الذي، من وجهةٍ أخرى، لا يصحّ أن يُعدّ نافلاً. وليست القصّة رغبةً في المجادلة (والمماحكة كما يحبّ بعضُنا) أن يُذكَّرَ السائلَ بأن القضية عويصةٌ ومركّبة، يتقاطع فيها السياسي والأخلاقي والوطني، فوجيهٌ كلّ الوجاهة أن يُقال إنه ليس من المناقبيّة في شيءٍ أن ينصرفَ واحدُنا، وهو في دعةٍ من أمره، إلى انتقاد أداء "حماس" في غير شأنٍ سياسيٍّ تفاوضيٍّ أو عسكريٍّ ميدانيّ، فيما المعركة شديدة الصعوبة، والحصار على المقاتلين مهول، وحساسية الحال عاليةٌ جدّاً. ولكنه وجيهٌ أيضاً أن يتضادّ، مع هذا المنطق، المُقنع في وجوهٍ له، قولٌ آخرُ ينظُر إلى فداحة النكبة الحادثة في أهل غزّة، وإلى أعداد الشهداء اليومية منهم جرّاء الإجرام الإسرائيلي، والتي تشلع أرواحنا، فيراهُما سببيْن ملحّين لتتجاوب "حماس" مع عروض الهدنات المطروحة بكيفيّاتٍ أخرى، فالتقاط الغزّيين ما أمكن من أنفاسهم عدّة أسابيع أدْعى من الانشغال بتفاصيل إجرائية من بديهيّ البديهيّات أن العدو الصهيوني قادرٌ، عملياً، على المراوغة بشأنها، وهو الذي تنعدم الثقة به أصلاً، ما يجعل البحث عن ضماناتٍ (أميركيةٍ وغيرها) تضييعاً للوقت. والوقتُ هنا يعني مزيداً من القتل الأعمى في ناس غزّة وترويعاً أكثر وتعطيلاً أشدّ للمستشفيات وقصفاً أزيد للمدارس ومراكز الإيواء.
ولمّا كان الشأن الفلسطيني عموماً، ومنه شأن غزّة وناسِها، ليس موكولاً بالمطلق إلى حركة حماس، مقاتلةً أو مُفاوضة، ولمّا كانت حرية الرأي والتفكير من أهم ما لا يجوز أن تتخلّى عنه النخبة الفلسطينية، على تنوّع مشاغلها، ولمّا كانت تلاوين الرأي العام الفلسطيني في قطاع غزّة غير واضحةٍ أبداً، وتتوالى إشاعاتٌ وانطباعاتٌ مرتجلةٌ وأخبارٌ غير مؤكّدة عن تفاصيله، فإن لنقد "حماس" أن يكون محسوماً، وإنْ في غضون المعجزة التي يصنُعها في غزّة منذ ثمانية شهور شباب كتائب القسّام، وإخوانهم في فصائل أخرى. وعندما يكون عيش الناس ومصائرهم في مهبّ الاستباحة التي يقترفها العدو المجرم بلا حدود، في انعدام أي حسٍّ أخلاقي منه، ومن دون اكتراثٍ بمواقف عالمية وبنداءات الأمم المتحدة، ومن دون احترام لمطالبات محاكم دولية، فإن للفلسطينيّ أن يتذكّر البديهيّة الذائعة، أن تفادي الخسائر، أو تقليلها، واحدٌ من أولى أولويات من يقودون الحروب والمواجهات. وأياً كان تعظيمنا المستحقّ جسارة المقاتلين في "حماس" وقوة إرادتهم، بل شديد إعجابنا بقدرات قياداتهم الميدانية، فإن هذين الأمرين (وغيرهما) لا يعنيان تغييب حقيقةٍ، موجزُها أن "حماس" حركة مقاومة وحسْب، وأن قدراتِها مهما بلغت، تُؤذي العدو وتُربكه، وتفضح خيبة رهاناته، وتصل نيران قنّاصيها إلى ضبّاطٍ وجنودٍ مجرمين، لكنها أبداً لا تردعُه عن قصف سوقٍ في مخيّم النصيرات أو ضرب مخيّم جباليا أو حرق خيام نازحين في رفح، أو تخريب مستشفى الشفاء. وهذا يعني، في الأول والأخير، أنه يجوزُ لنا، سيّما بعد إجهادٍ فظيع للغزّيين المنكوبين ثمانية شهور، أن نقول، من موقعنا في ضفّة نصرة المقاومة، إنه حان الوقت (وإنْ تأخّر) لمراجعة الخيارات، وللانتقال من حال المراوحة البارد، والشديد البطء، في مفاوضات الهدنات، إلى رؤيةٍ أوسع، أكثر إحاطةً بالاحتمالات والمآلات، وأكثرً إدراكاً للسياسة وطرائقها، وأكثرَ تبصّراً في الواقع المُعاين، فلا يصير أمَّ القضايا رفض نتنياهو إشهار موافقته وقف إطلاق النار، وهو الذي لن يُغادر مكابرتَه هذه، ولو استمرّ من تبقّوا أسرى أحياء لدى "حماس" (وغيرها) رهائن عشر سنوات.
ليس في الكلام أعلاه دروسٌ للصابرين المقاومين الذين كتَب عنهم صاحب هذه الكلمات غير مرّة إنهم صنعوا معجزةً في المعركة بعد معجزة "7 أكتوبر"، غير أن مقتضى الحال ليس هذا، بل هو أنّ لأيٍّ منّا أن ينتقد "حماس" في أيّ أداء، بدافع الحسّ العالي بالمسؤولية، وباعتبار كل الأبعاد الوطنية والأخلاقية والسياسية... والله من وراء القصد.