هوامش على دفتر غزّة
(1)
كتب إليّ صديقٌ يذكّرني بما قالته رئيسة حكومة إسرائيل السابقة غولدا مائير، غداة حرق المسجد الأقصى في أغسطس/ آب عام 1969: "لم أنم طوال الليل، كنتُ خائفة من أن يدخل العرب إسرائيل أفواجا من كل مكان، ولكن عندما أشرقت شمس اليوم التالي أدركت أن باستطاعتنا أن نفعل أي شيء نريده". علّق صديقي على ما ذكّرني به بعبارة "ما أشبه الليلة بالبارحة".
تحيلنا هذه الحكاية إلى "7 أكتوبر"، عندما نجحت حركة حماس في تغيير قواعد اللعبة، وفضحت أسطورة "القلعة الأسطورية التي لا تُقهر"، وصدمت نتنياهو الذي كان يعتقد أنه نجح في صدّ سهام خصومه المحليين، فجاءته الضربة من الخارج، وعلى نحوٍ لم يتوقّعه، لكنه، على ما يبدو، كان على غير ما كانت عليه غولدا مائير، وقد راجع نفسه، وربما نام مطمئنا إلى أن العرب الآخرين لن يحرّكوا ساكنا، وقد اختبرهم أكثر من مرّة، ولذلك حزم أمره على أن يفعل كل ما كان يريده، ولو فعل العرب بعض ما كانت تأملُه غزّة منهم لاستطاعوا أن يوقفوا شرّه، ويلجموا وحشيّته التي تجاوزت كل الحدود. ولسوف يذكر التاريخ أن رجالا من 57 دولة اجتمعوا بعد لأي، ليواسوا الفلسطينيين الذين لم يأتِ دورُهم بعد كي يصيروا أرقاما، وليقرأوا الفاتحة على أجداث من تحوّل منهم الى مجرّد أرقام، وكأنهم قد تواطأوا على البقاء خارج التغطية، حتى يقضي الله أمرا، فلمّا وجدوا أن لا مناص من أن يقيموا مجلس عزاء فعلوا ذلك على مضض.
أما غيرُهم من أبناء العرب العاربة أو المستعربة، فلم يملكوا من أمرهم شيئا، واكتفوا بالتأسّي والحزن وجلد الذات، وعلى شفاههم تتردّد كلمة "لو" الميتة، لعلها تعينهم على تحمّل فصول التراجيديا الدموية الماثلة أمامهم، وهم في حالهم هذه يوفّرون لأنفسهم قدرا من الحلم يتعلقون به كما يتعلق الغريق بقشّة، وإن عرفوا متأخّرين أن كلمة "لو" حرف امتناع لامتناع، امتناع الجواب لامتناع الشرط، وفي حالة غزّة فقد امتنع الشرط فامتنع الجواب، وكفى الله المؤمنين!
كم فلسطينيا ينبغي أن يموتوا كي يستيقظ ضمير العالم، أما ضمائر أبناء جلدتنا فلم نعُد نعوّل عليها، بعدما أدركنا أنها تعاني من سكرات الموت؟
(2)
بعيدا عن المماحكات التي ظهرت هنا أو هناك أن "حماس" لم تستشر أحدا في ما فعلته، وربما لم تعمَد إلى إبلاغ أحد بخطّتها مسبقا كي يظلّ الأمر سرّا، فقد أصبح واضحا أنها كانت تنتظر مشاركة واسعة في كل الساحات، وأن يفتح الجبهات من بيدهم الحوْل والطول لفعل ذلك من دول محور الممانعة وفصائله الذين صدّعوا رؤوسنا بشعاراتهم التي أثبتت زيفها، لكن شيئا لم يحدُث، لأن تلك الدول والفصائل تلقّت أوامر، ولا نقول نصائح، بعدم التدخّل، وإلا..، وهكذا بقيت "حماس" وحدها صامدة ومقاتلة في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية - المدعومة أميركيا وأوروبيا، ومع ذلك استطاعت أن تحقّق الكثير، صنعت اختراقا في المنحى "الجيوسياسي" في الشرق الأوسط، وأربكت خطط أكثر من دولة في المنطقة وخارجها، وحرّكت الرمال في الصحراء العربية وما حولها، وأجبرت دعاة التطبيع على الانكفاء، وأيضا سلطت الأضواء على مأساة عمرُها أزيد من 75 عاما، وطرحت سؤالا شائكا: متى يلتفت العالم إلى أصحاب القضية؟
(3)
في هذا الزمن الرديء، أصبح الفلسطيني، في نظر هذا العالم المتوحش، مجرّد رقم لا يُغني ولا يُسمن، وقد دأبت وزارة الصحة في غزّة تحيطنا علما، ساعة بساعة، كم بلغ تعداد الفلسطينيين الشهداء، الأطفال والنساء والرجال، في غزّة التي تحترق، وكم بلغ تعداد الجرحى والمعوقين والمفقودين. ومع كتابة هذ المقال، أبلغنا العدّاد أن ثمة 11180 شهيدا بينهم 4609 أطفال و3100 امرأة، إلى جانب 28200 جريح و3250 مفقودا، هذا كله حصيلة 1142 مجزرة نفّذها المحتلون، وألقوا خلالها 32 ألف طن من المتفجّرات، وما زال العدّاد يعمل. السؤال المعلّق بدون إجابة: كم فلسطينيا ينبغي أن يموتوا كي يستيقظ ضمير العالم، أما ضمائر أبناء جلدتنا فلم نعُد نعوّل عليها، بعدما أدركنا أنها تعاني من سكرات الموت؟
(4)
أما بعد، فيا من تقرأون كلماتنا هذه، لا تشمتوا بنا، لا نريد بعض شفقتكم، مشكلتنا أننا لم نتعلّم من التاريخ، التاريخ هو الذي تعلّم منا، ومرّة أخرى وأخرى، لا سبيل لنا، ونحنُ على شفا النكبة الثانية التي قد تكون هذه المرّة أم النكبات، سوى أن نمسك بحرف "لو"، ونحن نعرف تماما أنه حرف امتناع لامتناع، امتناع الجواب لامتناع الشرط.