هويات مربِكة في كرة القدم
قد لا يدهشك وجود لاعبين سُمر، من أصولٍ أفريقية، في منتخبات بلاد البيض والشُّقر، سويسرا وإنكلترا وفرنسا وغيرها، في مونديال قطر، طالما أنّ الكيني الأصل، باراك حسين أوباما، صار رئيساً للولايات المتحدة، غير أنّ الفرق الوطنية الرياضية، سيما في كرة القدم، خصوصاً في كأس العالم، يحدُث اعتبارُها مثل أعلام البلاد، وأن تُعدّ انتصاراتُها الكروية وطنيةً. وإذا ما خاض الدارسون في سوسيولوجيا كرة القدم في هذا الأمر، بما يتضمنّه من بعض التعقيد، فإنّهم، على الأرجح، سيأتون على مسألة الهوية، وعلى ما يمثّله تشجيع فريق الدولة لكرة القدم من شعورٍ وطنيٍّ واجب، فلا يجوز التسامح في أمرٍ كهذا. ولكن وقائع تطرأ في عالم كرة القدم تأخُذُك إلى طرح القضية من منظورٍ مختلفٍ نوعاً ما، كما وقائع أخرى في مظاهر وأنشطةٍ أخرى، يجوز التدليل بها على صحّة ما ختم به عزمي بشارة محاضرتَه "تأملات في مسألة الهوية" في مارس/ آذار 2022 (نشرت في موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) " ...، أما المشتركات الثقافية الضرورية لتعزيز الهوية الوطنية فتنشأ بالتدريج وتتعزّز بالتنشئة المدرسية، ونتيجة للعيش المشترك في دولة والشعور بالانتماء إليها، بدءاً من احترام رموزها وطقوسها الوطنية وحتى تشجيعه فريق كرة القدم الوطني، وليس بالتميّز المفتعل ونفي الآخرين".
كأن والدة اللاعب السويسري الجنسية، الكاميروني الأصل، بريل إيمبولو (25 عاماً) تحسم القصّة كلها، في ردّها على الذين هاجموا ابنها، بعد تسجيله هدف سويسرا في مرمى بلاده الأم، في ملعب الجنوب في الوكرة، في المونديال، عندما طلبت أن يتركوه وشأنَه، وقالت: "لقد درّبه السويسريون، وقام بالمهمّة، والكاميرون تتحدّث عن الخيانة بدل تطوير الذات". لم يشفع للاعب البارع بعضُ الحزن الذي بدا عليه، وعدم فرحِه مع زملائه، بعد هدفه الذي فازت به سويسرا على موطنِه الأصلي، فقد هاجم ساخطون عليه منزل والدِه في العاصمة ياوندي، ورموه وابنَه بشتائم حادّة. وبسبب "خطيئتِه التي لا تُغتفر" هدّدوا بإحراق المنزل (والدُه ووالدته منفصلان، أخذ الجنسية السويسرية من إقامته في سويسرا مع والدته وزوجها السويسري الذي اقترنت به في فرنسا). لم يشفع له تمنّيه "كلّ التوفيق" لمنتخب الكاميرون، وقد هزَمَ هذا المنتخب بهدفٍ أعلن فخره به للغاية.
يبدو اللاعب الشاب، في بعض الحزن الذي أصابَه في الملعب بعد هدفه المثير، ثم تالياً في فخره بالهدف نفسه، كأنّه يؤكّد قول عزمي بشارة في تلك المحاضرة، إنّه "لا يجوز التقليل من أهمية مسألة هوية الإنسان الفردية، رؤيته هو لشخصيّته وخصوصيتها، وهويته الجماعية، أي شعوره الواعي بالانتماء إلى جماعة، وتحوّل الجماعة إلى جماعة هوية". ليس في وسع هذا اللاعب أن ينسى أصلَه كاميرونياً (ولد في ياوندي)، غير أنه لا يمكنه أن يتخفّف من انتسابِه إلى شعبٍ ودولةٍ جعلاه "المهاجم" المحترف، المؤهّل للّعب في كأس العالم. وفي هذا، قد يصلُح نموذجُه، فردياً، على صواب القول عن الهويات بوصفها مركّبةً ومتحوّلة. وهذا مربكٌ لنا، نحن العرب، تجدنا مضطرّين إلى إعلاء قيمة الهوية في خطابنا الوطني العام، بسبب استهدافاتٍ لها، وبسبب اختزال أنظمةٍ مستبدّةٍ لها في صيغةٍ وظيفيةٍ نفعيةٍ، ترتدّ سلباً في خصوص الوعي الهوياتي وتأصيله.
ذكّرتنا واقعة إيمبولو بهدف العراقي بسام الراوي، اللاعب في المنتخب القطري، بضربةٍ حرّة، في مرمى العراق في كأس آسيا في أبوظبي في 2019. رماه عراقيون بعدم احترامه شعبَه، غير أنه أوضح اعتزازه بجذورِه وأصوله، وببلدِه العراق الذي ولد فيه، مستدرِكاً أنّه بدأ ممارسة كرة القدم في مدارس قطر، ثم في أكاديمية أسباير، وساهم نادي الريان (القطري) باحترافِه، واستطرد مغرّداً: "لقطر فضل كبير عليّ لن أنساه أبداً".
تُراهما مربكيْن، هدفا إيمبولو قبل أيام والراوي قبل سنوات؟ ربما. لكنّ المربك حقاً وجود رئيس ليبيريا، لاعب كرة القدم السابق، جورج وياه، في استاد أحمد بن علي في الدوحة، مشجّعاً نجلَه اللاعب تيموثي وياه في منتخب الولايات المتحدة، والذي سجّل هدفاً في مرمى ويلز. كان الوالد نجما في اللعبة في بلده، واستحقّ أن يكون أول لاعبٍ أفريقي ينال جائزة الكرة الذهبية (1995)، وهذا ولدُه يُحرِز هدفاً ثميناً، وهو يلبس قميص منتخب أميركا، لا ليبيريا. لماذا لا يلعب الشاب في منتخب بلادِه التي يرأسها والده؟! .. لا أعرف.