04 نوفمبر 2024
هيكل... الأدب والفن
"لو أن هيكل كتب الرواية، ما كنّاش أكلنا عيش في البلد دي".. قائل هذه العبارة، الطريفة، نجيب محفوظ. وهي تؤشّر إلى ملكاتٍ عديدةٍ توفّرت لدى محمد حسنين هيكل تؤهله لكتابة الرواية، بشروطها الفنية والأدبية، ومنها مرونة السرد المنبسط لديه، في مقالاته وكتبه، وفي إطلالاته التلفزيونية. وعلى ما فيه من تزيّد قولُ بعضهم إن هيكل روائيٌّ خسرته الرواية العربية، قد يجوز القول إنه اقترب، في ما كتب عن شخصياتٍ، إلى مبنى الرواية جنساً أدبياً. وربما بشيء من "التحرير"، في الوسع أن يصير "خريف الغضب" عن أنور السادات روايةً شائقة، فقد وازى، في هذا الكتاب، بين استبطان دواخل الرئيس القتيل وجوانيّته مع تظهير سلوكه وأدائه في غير شأن، ذاتي وعام. ومعلومٌ أن هيكل كان يحرص على أن يقرأ في الأدب، نحو ساعتين قبل نومه، بعد أن يكون قد أمضى قسطاً من نهاره في مطالعاتٍ في التاريخ والسياسة والاستراتيجيات، في كتب وتقارير وصحف. وقد أوضح أن حرصه ذاك كان لحاجته الدائمة لحماية لغته في الكتابة، وترطيبها، وتسليحها بما في الأدب من استعاراتٍ ومجازاتٍ. ولعلًّ شيئاً من الإفراط في الاستنجاد بالتشبيهات والكنايات أصابَ تحليلاته وقائع سياسية غير قليلة، في السنوات الأخيرة خصوصاً، فتسبّب هذا الأمر، إلى حدٍّ ما، في التعمية على موقفه في هذا الشأن أو ذاك، بدل تظهيره بالوضوح اللازم... والمطلوب.
كان هيكل يحفظ أكثر من عشرة آلاف بيت من الشعر العربي، للمتنبي وأحمد شوقي وبشّار بن برد خصوصاً، عدا عن محفوظاته من الشعر الأجنبي (طاغور مثلاً). وفي حلقات "مع هيكل، تجربة حياة" في "الجزيرة"، كان مدهشاً فيها استذكاره أشعاراً غير قليلة، وهو ما لوحظ في أحاديثه التلفزيونية مع لميس الحديدي تالياً (كما في آخر هذه الأحاديث في وداع 2015). وقد قال، مرّة، إنه، في حفظه الشعر، كان يدرّب ذاكرته. وكان فهمي هويدي صائباً جداً في وصف هذه الذاكرة بأنها "جبّارة". ولا مبالغة في القول، هنا، إنها هبةٌ ربانية، حماها هيكل بمثابرةٍ ودأبٍ استثنائيين. وإلى هذه (الوظيفة؟) لحفظ الشعر، فإن الأثر الأهم لذلك هو تمكين معرفته باللغة ومترادفاتها، وإحالاتها، وسعة معجمها (كتابته بالانجليزية لم تقل رقياً). وكذلك التسلح بثقافة أدبيةٍ رفيعة، ساعدت، في حيازته قسطاً غزيراً منها، مطالعاته في الرواية، ومشاهداته العروض المسرحية، وقراءاته في الفنون، وكان له رأي في الإفادة من المنجزات الأدبية في فهم التاريخ. وليست منسيةً إحالته إلى رواية اليوغسلافي (البوسني)، إيفو أندريتش، "جسر على نهر الدرينا"، في مقالةٍ له عن الحرب في البوسنة والهرسك قبل 17 عاماً.
ويطول الحديث عن شغف الأستاذ الراحل بالموسيقى والمسرح والتشكيل، وهو الذي كان جوّاب متاحف ومسارح، ويُنفق على شراء اللوحات. ويطول الحديث، أيضاً، عن صداقاته مع أدباء عديدين، عرب وعالميين، ومنهم نزار قباني ومحمود درويش، وفي البال أنه الذي جاء، إبّان رئاسته تحريرها، بنجوم مصر الأدباء إلى "الأهرام"، كتاباً وموظفين فيها، نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ولويس عوض ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي مثلاً.
مؤدّى هذا المرور الموجز، هنا، على بعضٍ من حسنين هيكل، أن من أوجب ما يلزم أن يتوفر عليه المشتغل في الصحافة، وفي السياسيّة منها، تعليقاً ومتابعةً إخباريةً وتحليلية، ثقافة كافية بالأدب، لا لتكون لغته الصحافية أدبيّة المنحى والظلال، ولا مستلّةً من طه حسين والجاحظ وغيرهما، وإنما ليحميها من الجفاف والتخشّب والمحدودية. ولتسعفه هذه الثقافة بأدواتٍ مضافة في فهم العالم، وفي الإحاطة بالجوهري في متغيرات الوقائع والأحداث.. فالصحافي شاهدٌ على لحظةٍ ستكون تاريخاً. ولا غلوَّ في الصراحة، هنا، إن من أسباب الركاكة والرداءة والضحالة، في راهن الصحافة العربية، أن كثيرين من منتجيها ذوو خيالٍ فقير، ويزهون بعدائهم الثقافة والقراءة والأدب، ثم يُحاضرون في أي شأنٍ، وكيفما اتفق، بادعاءٍ مكشوف، وبأخطاء نحوية وتعبيرية بلا عدد.
كان هيكل يحفظ أكثر من عشرة آلاف بيت من الشعر العربي، للمتنبي وأحمد شوقي وبشّار بن برد خصوصاً، عدا عن محفوظاته من الشعر الأجنبي (طاغور مثلاً). وفي حلقات "مع هيكل، تجربة حياة" في "الجزيرة"، كان مدهشاً فيها استذكاره أشعاراً غير قليلة، وهو ما لوحظ في أحاديثه التلفزيونية مع لميس الحديدي تالياً (كما في آخر هذه الأحاديث في وداع 2015). وقد قال، مرّة، إنه، في حفظه الشعر، كان يدرّب ذاكرته. وكان فهمي هويدي صائباً جداً في وصف هذه الذاكرة بأنها "جبّارة". ولا مبالغة في القول، هنا، إنها هبةٌ ربانية، حماها هيكل بمثابرةٍ ودأبٍ استثنائيين. وإلى هذه (الوظيفة؟) لحفظ الشعر، فإن الأثر الأهم لذلك هو تمكين معرفته باللغة ومترادفاتها، وإحالاتها، وسعة معجمها (كتابته بالانجليزية لم تقل رقياً). وكذلك التسلح بثقافة أدبيةٍ رفيعة، ساعدت، في حيازته قسطاً غزيراً منها، مطالعاته في الرواية، ومشاهداته العروض المسرحية، وقراءاته في الفنون، وكان له رأي في الإفادة من المنجزات الأدبية في فهم التاريخ. وليست منسيةً إحالته إلى رواية اليوغسلافي (البوسني)، إيفو أندريتش، "جسر على نهر الدرينا"، في مقالةٍ له عن الحرب في البوسنة والهرسك قبل 17 عاماً.
ويطول الحديث عن شغف الأستاذ الراحل بالموسيقى والمسرح والتشكيل، وهو الذي كان جوّاب متاحف ومسارح، ويُنفق على شراء اللوحات. ويطول الحديث، أيضاً، عن صداقاته مع أدباء عديدين، عرب وعالميين، ومنهم نزار قباني ومحمود درويش، وفي البال أنه الذي جاء، إبّان رئاسته تحريرها، بنجوم مصر الأدباء إلى "الأهرام"، كتاباً وموظفين فيها، نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ولويس عوض ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي مثلاً.
مؤدّى هذا المرور الموجز، هنا، على بعضٍ من حسنين هيكل، أن من أوجب ما يلزم أن يتوفر عليه المشتغل في الصحافة، وفي السياسيّة منها، تعليقاً ومتابعةً إخباريةً وتحليلية، ثقافة كافية بالأدب، لا لتكون لغته الصحافية أدبيّة المنحى والظلال، ولا مستلّةً من طه حسين والجاحظ وغيرهما، وإنما ليحميها من الجفاف والتخشّب والمحدودية. ولتسعفه هذه الثقافة بأدواتٍ مضافة في فهم العالم، وفي الإحاطة بالجوهري في متغيرات الوقائع والأحداث.. فالصحافي شاهدٌ على لحظةٍ ستكون تاريخاً. ولا غلوَّ في الصراحة، هنا، إن من أسباب الركاكة والرداءة والضحالة، في راهن الصحافة العربية، أن كثيرين من منتجيها ذوو خيالٍ فقير، ويزهون بعدائهم الثقافة والقراءة والأدب، ثم يُحاضرون في أي شأنٍ، وكيفما اتفق، بادعاءٍ مكشوف، وبأخطاء نحوية وتعبيرية بلا عدد.