"... وثغرك باسمُ"
مختلفون جدّاً نحن البشر، في أكبر الأشياء وأصغرها، وفي الطباع والمواقف والملامح، وفي ردّات الفعل أيضاً. وبصمات الأصابع، التي يقال إنّها تميّز واحدنا من الآخر، هي مُجرّد صورة مكشوفة لذلك الاختلاف، الذي يصنع فردانيّةَ شخصياتنا، ويجعلنا أكثر الأسرار الإلهية في الخلق أهمّية. وفردانيّتنا التي لا نكاد نرصدها، ونحن نمضي في حيوات متشابهة في الظروف العامة، تفاجئنا في بعض المواقف المتشابهة. منها على سبيل المثال موقفا الانتصار والهزيمة. ولكن، من مثل الشعراء قادرٌ على رصد تلك المنمنمات الدقيقة، التي نتمايز فيها في تلك المواقف؟
"تَمُرُّ بكَ الأبطالُ كَلْمَى هَزيمَةً/ وَوَجْهُكَ وَضّاحٌ وَثَغْرُكَ باسِمُ".. هكذا يخاطب المُتنبّي بطله الأثير الأمير سيف الدولة الحمداني شعراً مُتخَماً بالحماسة، وهو يراه مُقبلاً من المعركة القاسية، التي انتهت للتو، مُنتصراً على الأبطال، وليس الجبناء، واحداً تلو الآخر، فيما يعتبره مدعاة للفخر والمدح والفرح، والتصبّر على ما لاقاه من أهوال القتال أيضاً. وبالتأكيد هو كذلك، فالانتصار قيمةٌ من قيم البشر، التي يسعون إلى تحقيقها، وإن كانت قيمةً نسبيةً تختلف في معناها من فرد لآخر، ومن معركة لأخرى، ولكنّ العبرة الحقيقية في أسلوب كلّ منا في التعامل معه، وفي طرائقنا في تلقّيه. ذلك هو التمايز والاختلاف إذن.
كلّنا تمرُّ بنا "الأبطال"، وكلّنا نمرُّ بهم، ونحن نعيش دور البطولة أحياناً، وهؤلاء الأبطال يأتون بهيئة بشر أو أحداث أو مواقفَ أو مشكلاتٍ أو قضايا أو تحدّياتٍ، وبغضّ النظر عن النتيجة ومن هو المُنتصِر، لا بدّ لنا، لكي نستمرّ في شعور الرضا والإنجاز والجدوى في هذه الحياة، أن نتعامل معهم أو معها كما تعامل سيف الدولة الحمداني مع أبطاله الحقيقيين.. لقد كانوا، حين رآهم المُتنبّي بعين القصيدة، يمرُّون به في حالات يُرثَى لها، مهزومين مُصابين حزانى، ولكنّه بشعور المُنتصِر يتسامى ليحتفظ بابتسامته الواثقة وتعبيرات وجهه المضيء بالفرح. ربّما ليُعزّز حالة الانتصار أو ليجعل منها "العاديّ جداً" في يومياته المُزدحمة بالبطولات والانتصارات.
فهؤلاء الأبطال، وما قاموا به تجاهه، يستحقّون على أساسها وصف المُتنبّي لهم بالأبطال، حتّى وهم في موقع الخصوم المهزومين، لم يستطيعوا أن يكدّروا خاطره أو أن يصادروا ابتسامته. ذلك أنّ شعوره بالقدرة على السمو وعلى التجاوز إلى الأمام يمنحه حالةً من الثبات في حال النصر، وفي حال الهزيمة أيضاً.
والأبطال يمرّون بنا نحن أيضاً، وربّما كلّ يوم، إن لم يكونوا في هيئة بشر، أعداء أو خصوماً أو منافسين أو مُجرّد حاسدين حاقدين، ففي هيئة مشكلاتٍ مُعقّدةٍ ومواقفَ صعبةٍ وتحدّياتٍ كبيرةٍ نجد أنفسنا في مواجهتها، ولا بدّ من التصرّف حيالها. صحيح أنّ كثيراً من هذه المواقف والمشكلات يمكننا دائماً تجاهلها، حتّى تنتهي بشكل أو بآخر، ما دامت في طبيعتها عابرة، تمرّ بنا ونحن الواقفون الثابتون، ولكن ليس كلّها، فمنها ما لا يمكن تجاهله، وبالتالي علينا مواجهته بالاستراتيجية ذاتها، التي اعتاد أن يلجأ إليها سيف الدولة؛ "الوجه الوضّاح" و"الثغر الباسمُ".
قبل أيام، كان علي أن أطبّق رؤيتي أعلاه للبطولة في موقف صعب وجدتُني أكابده وحدي. اختبار مُعقّد في الصعيد النفسي، لا يمكن تجاوزه بالتجاهل ولا انتظاره بثغرٍ باسمٍ. حتّى الصمت يمكن أن يُفسَّر أمام الخصم في تلك اللحظة لغير صالحي، خاصّة أنّ ما يربطني بالخصم صداقةٌ متينةٌ، وبالتالي فإنّ أيَّ محاولة للتسامي، وإن أنجتني من مغبّة الموقف، فستكون دبّوساً في قلب صداقة جميلة بيننا.
لكن، كان عليَّ أن أكون أنا وحدي، بتلك الفردانية غير الخاضعة لحسابات المجموعة. كان عليَّ أن أبتسم للتهمة المُخاتلة التي رمتني بها صديقتي، وهي تَحسَب أنّها تأخُذ بيدي إلى منطقة الراحة. لم تكن ابتسامتي سوى سرّ صغير من أسرار تمايزنا البشري، فأنا ببساطة لستُ أنتِ، يا صديقتي العزيزة، وما تَحسَبينه انتصاراً لي ليس سوى هزيمتي المُدوّية أمام ذاتي.