وداعاً لأقراص الذاكرة
وصفت لي طبيبة تعمل في الصحافة، إلى جانب مهنتها في الطب، أقراصاً قالت إنّها تساهم في تقوية الذاكرة، بعد أن شكوْت لها من أنني أصبحت كثيرة النسيان في الآونة الأخيرة. في السابق، كنت أحبّ نسياني، وكنت أراه فرصةً لتكوين ذاكرتي من جديد. أفرشها بما أحبّ من المواقف والأحداث، وأوثثها بمن أحبّ من البشر عندما يتلاشى منها ما ومن ملأها حتى فاض عن جوانبها. لكنني اكتشفتُ أن الأمر ليس بهذه السهولة المُغرية، فنحن لا نستطيع التحكّم بمفاعيل الذاكرة كما نشاء، فننسى ما نودّ نسيانه ونبقي ما يهمنا أن نبقيه. الأمر يحدُث أحيانا بالعكس من رغباتنا تماما، وكأن الذاكرة تريد معاقبتنا على ذنبٍ ارتكبناه بحقّها، أو على إسرافنا في ملئها على هذا النحو غير المسبوق تاريخيا، بعد أن أصبحت المعلومات أكثر، ربما من حاجتنا إليها، ومن قدرة تلك الذاكرة على استيعابها. المهم أنّ ذاكرتي المليئة بكل ما أعتبره مهما وغير مهم وصلت إلى حدّها الأقصى، فأصبحت تسرّب ما احتفظت به سابقا على نحو عشوائي.
قالت زميلتي الطبيبة إنّ هذه الأقراص العشبية ستساعدني في إنعاش خلايا الذاكرة المتعبة، وإنني سألاحظ الفرق بسرعة. تقبلت النصيحة المصحوبة بالهدية شاكرة ومتحمّسة للتجربة تحت وطأة حاجتي الملحّة لها، رغم نفوري التاريخي من كل أنواع الأدوية. الحمد لله أن صحّتي العامة جيدة، حتى وأنا أتعدّى الخمسين عاما بسنوات، وأنني ما زلت أمضي عمري بلا أدوية يومية، وهذا من فضل الله، ثم من نمطي الغذائي الصحّي إلى حد كبير كما أظن. ولعل ما دفعني إلى ذلك النمط الغذائي نفوري الشهير من تناول أي نوعٍ من الأدوية، فالأمر كما يبدو متبادلا ما بين النتيجة والسبب. لكن ما حمّسني هذه المرّة لأقراص إنعاش الذاكرة كما أسمتها الطبيبة، وهي تشرح لي مكوّناتها وطريقة تناولها هو حاجتي بالفعل لإنعاش ذاكرتي التي ذلّتني أكثر من مرّة في تذكّر الأسماء تحديدا. كنت في بعض النقاشات العامة أستحضر وجوه من أريد الحديث عنهم على سبيل الاستشهاد بهم مثلا، لكن أسماءهم تغيب فجأةً في أعماقٍ سحيقةٍ ومظلمة. والغريب أنني أعود فأتذكّرها بسهولة، بعد أن ينتهي النقاش وتنتفي الحاجة لها. ما هذه اللعبة السخيفة التي تلعبها معي ذاكرتي؟ لا بد أنها تعاقبني فعلاً!
بعد تجربة أسبوع من تناول الأقراص التي لحسن الحظ لم أنسَ أن آخذها في مواعيدها الثابتة قبل النوم، لاحظتُ أنّ ذاكرتي تتحسّن، وأنّ الأسماء الغائبة عادت فجأة لتحتل أمكنتها الأثيرة في خلايا الدماغ، وأنني لم أعد أعاني من نوبات النسيان المفاجئة، والتي كانت تُحرجني في بعض النقاشات.
شعرتُ أنّ رأسي امتلأ من جديد بأسماء ومعلومات ومواقف وذكريات ووجوه وأمكنة، وأنّني أستطيع استحضار ما أودّ استحضاره منها بسهولةٍ يحسُدني عليها أبناء جيلي.
لكن، هل كنت بحاجةٍ لهذا كله فعلاً؟ ألم يكن بإمكاني التأقلم مع المساحات البيضاء المتفرّقة التي أتخيل أنّها كانت تحتلّ أجزاء متفرقة من ذاكرتي؟ أليس من حقّ ذاكرتي أن تطرد ما تشاء ممن ومما احتوته طويلاً بين تضاعيفها، وفوق مساحتها المحدودة بسنوات العمر، لتفسح المجال لما ولمن يستجدّ؟ لماذا أتدخّل في خياراتها التي ينبغي أن تكون حرّة، ومساراتها التي لم أجرّبها في السابق؟ هو العمر وهذه اشتراطاته، والتي لا تعني، بالضرورة، مرضاً يستحقّ العلاج أو الدواء.
أبعدت أقراص الدواء وقرّرت ألّا أعود لها مؤقتاً على الأقل. عاد لي نفوري القديم من كلّ علاج طبي، ومن هذه الأقراص تحديداً. سأحتفي بما بقي لي من ذكريات، وهي كثيرة لحسن الحظ. وأظن أنها تكفي زاداً لبقية العمر... فلو لم تكن تكفي، لما قاومت قوى الذاكرة الطاردة وتشبثت في مكانها حتى الآن.