ورطة فرنسا في أفريقيا
تتأكّد يوما بعد يوما صلة الانقلاب العسكري الذي شهدته النيجر، الأسبوع الماضي، بصراع القوة والنفوذ في الساحل وجنوب الصحراء. وقد حذّرت دول أفريقية من مغبّة أي تدخّل عسكري في النيجر، بالنظر إلى تداعياته على الأمن والاستقرار في المنطقة. كما حذّرت الولايات المتحدة المجلس العسكري في النيجر من أي شراكةٍ مع روسيا، لما يمثلّه ذلك من تهديد لمصالحها في الإقليم. وتبقى فرنسا الدولة الغربية المعنيّة أكثر بما ستؤول إليه الأحداث في النيجر بسبب نفوذها السياسي والاقتصادي هناك، خصوصا بعد خروج قواتها من مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى وانحسار نفوذها في غرب أفريقيا. ويَكشف ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن استعداد بلاده للتدخّل العسكري في النيجر حجمَ التهديد الذي باتت تُواجهه المصالح الفرنسية بسبب المتغيّرات الإقليمية والدولية الحاصلة، التي تتبدّى، أساسا، في تنامي النفوذين الصيني والروسي في أفريقيا، وافتقاد فرنسا رؤية واضحة لحماية مصالحها.
تمتلك فرنسا شبكة واسعة من المصالح في النيجر، إذ تتوفّر على عدة قواعد عسكرية تُخوّلها تنزيل استراتيجيتها، في قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، على امتداد الساحل وجنوب الصحراء، كما لديها شركات تنشط، منذ عقود، في قطاعات الطاقة والتعدين والصناعة، وهو ما يجعل من النيجر أحد المفاتيح الرئيسة في حماية مصالحها وتعزيزها. وعلى هذا الأساس، يمثل الاستقرار السياسي والأهلي في هذا البلد الأفريقي أهمية استراتيجية، ليس فقط بالنسبة لفرنسا، بل لكل القوى الدولية الكبرى التي تتصارع من أجل توسيع شبكات مصالحها الاقتصادية.
يكشف ما حدث في النيجر ورطة فرنسا وعجزها عن التعاطي مع ما يستجدّ في المنطقة. فبعد خروج قوّاتها من مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، أصبحت النيجر آخر معقل لنفوذها. وبسقوط حليفها محمد بازوم ينفرط عقد هذا النفوذ، ويزداد المشهد تعقيدا مع احتدام التقاطب الإقليمي والدولي في الساحل.
في السياق نفسه، يمثل الوضع الاجتماعي والاقتصادي عاملا آخر في فهم معادلة الصراع على السلطة في النيجر، ففي حينٍ ترتفع نسب الفقر والبطالة والتضخم، وتعرف الخدمات الأساسية، من تعليم وصحّة وغيرهما، تردّيا كبيرا، تتوفّر النيجر، في المقابل، على ثروات معدنية هائلة تستفيد منها، بالدرجة الأولى، شركات فرنسية وغربية. كذلك يشكّل الأمن عاملا آخر في فهم هذه المعادلة، فقد شهدت النيجر، خلال السنوات الأخيرة، تناميا ملحوظا للجماعات الإسلامية المتطرّفة مثل "بوكو حرام" و"القاعدة" و"داعش'' وغيرها. ولم يُفلح الحكم الديمقراطي الفتي في معالجة هذه المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتراكمة، وذلك بسبب الطبيعة التقليدية للاجتماع السياسي، إذ يغلب الانتماء الإثني والقبلي على الانتماء الوطني. يُضاف إلى ذلك أن أداء النخب السياسية، في ظل هذا الحكم، لم يكن في مستوى تطلعات المواطنين، بل فاقم هذه المشكلات وزاد من حدّتها.
بالطبع، يصعب إغفال الأبعاد الإثنية والعرقية للأزمة الحاصلة في النيجر، فالرئيس المطاح به محمد بازوم ينتمي للأقلية العربية، بينما ينتمي قادة الانقلاب العسكري إلى إثنيات زنجية أخرى. وهو ما يغذّي أكثر صراع فرنسا والولايات المتحدة والصين وروسيا على ثروات الساحل الأفريقي وموارده، إذ تسعى كل دولة إلى البحث عن حلفاء، مدنيين وعسكريين، موثوق بهم وقادرين على حماية مصالحها.
في الختام، كل السيناريوهات تبقى واردة في ما ستؤول إليه الأزمة في النيجر، وفي مقدّمتها التدخل العسكري الفرنسي لإعادة محمد بازوم إلى السلطة؛ سيناريو يظلّ مستبعدا بالنظر إلى كلفته السياسية والأمنية على دول الساحل وجنوب الصحراء. هذا إضافة إلى أن فشل أي تدخّل عسكري فرنسي، أو غربي، لن يُنهيَ النفوذ الفرنسي في النيجر فقط، بل قد يكون مقدّمة لاندلاع حركات شعبية معارضة للوجود الفرنسي في دول أفريقية أخرى، ذلك أن من الصعب إقناع شعوب وسط أفريقيا وغربها بأن هاجس فرنسا الحفاظُ على المسار الديمقراطي في النيجر، في وقت تدرك فيه هذه الشعوب جيدا أن ما تعيشه من فقر وبؤس وتخلّف يعود إلى استمرار فرنسا في نهب ثرواتها ومقدراتها.