وليد سيف في "النار والعنقاء"
يأتي الممثل جمال سليمان، في حديثه في الفيلم الوثائقي "الفصل الأخير"، عن صديقه الراحل المخرج حاتم علي، (أنجزه تلفزيون سوريا وبثّه في الذكرى الأولى لرحيل حاتم علي)، على مشهدٍ من مسلسل "صقر قريش" (2002)، يُخاطب فيه عبد الرحمن الداخل جمعا من أنصارِه في غضون واحدةٍ من معاركه لتوطيد سلطته وحكم الدولة الأموية الثانية في الأندلس، لحثّ الهمّة على محاربة خصومٍ له ولهم، ويذكّرهم بعصبةٍ قبليةٍ فيهم وعصبة أولئك. وفي الأثناء، تتجّه الكاميرا إلى بدر الذي كان بين الجمع، وهو قائد الجيش، وخادم عبد الرحمن ومولاه ورفيقه في رحلة الفرار من الشام إلى الأندلس، هو الذي بلا عُصبةٍ قبلية. روميٌّ لم يذكُر له المؤرّخون نسبا، ولم يكتبوا عنه سوى سطرين أو ثلاثة، عِمادها أن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام اصطحب معه في رحلة النجاة والهرب الطويلة خادمه بدر. يؤشّر جمال سليمان إلى هذه اللقطة واحدةً من دلائل كثيرة على ذكاء حاتم علي مخرجا. وهذا صحيحٌ. وللإضافة، لا يُنسى أن هذه الشخصية العابرة، العارضة، المُهملة، الغائبة تقريبا، في مرويات المؤرّخين، كانت مركزيةً في المسلسل الجميل، وأدّى الدور المغربي محمد مفتاح ببراعةٍ (باهرةٍ بلا مبالغة). وفي هذا، كان حاتم علي أمينا للسيناريو والنص الذي كتبه وليد سيف برؤيةٍ إلى التاريخ لا باعتباره وقائع وأحداثا وأخبارا، وإنما ماضيا هو الآن، وله أكثر من رواية، وفي محمولاته كثيرٌ مما يعرّفك على ما يقوى به بنيان الدولة ويعضُد شوكة السلطان وعمارة الحكم، وعلى ما يُضعف هذا كله. وليست مقولة "الإسقاط" هنا جائزة، لأنك عند وليد سيف تبقى في التاريخ، وإنما بعيني كاتبٍ يحترف التقاطَ الدرامي، وصناعَته، ليصير مشهدا وفُرجة، وليكون، من قبل ومن بعد، ممتعا، وجذّابا، ويشيع في العقل والوجدان أسئلةً بلا عدد، أمثلةً منها عن أمة المسلمين، عن الطغيان، عن التمكين، عن القتل والغلظة وانعدام الرحمة، بل وعن المذابح الشنيعة وسائل للجلوس في مقعد الأمير أو الخليفة، والحفاظ عليه وتوريثه، وحمايته من المتربّصين، الأقربين والأبعدين.
ليست ذكرى وفاة حاتم علي وحدَها استقدمت "صقر قريش" إلى هنا، وإنما أيضا بهجة صاحب هذه الكلمات بقراءته، في خواتيم العام الذي ينصرف، رواية "النار والعنقاء" بجزأيها "الرايات السود" و"صقر قريش" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2021)، والتي يواصل فيها كاتبها وليد سيف مشروعَه، تحويلَ أعماله الدرامية إلى رواياتٍ مقروءة، المعاكس للشائع المعهود، وقد صدرت قبل شهور "مواعيد قرطبة" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2021) عن مسلسل "ربيع قرطبة" (الثاني في الثلاثية الأندلسية مع حاتم علي). وربما، أراد سيف، في أن يسبق الثاني الأول عمليْن مقروءيْن، الإيحاء بكسر مقولة الثلاثية الذائعة، وعدم وجوب النظر إلى "الأدب الروائي المصوّر" بتتابع المقتضى التاريخي الكلاسيكي، وإنْ نُصبح هنا في انتظار المسلسل الثالث "ملوك الطوائف" نصّا مقروءا، في العام الجديد ربما (و"التغريبة الفلسطينية" بالمناسبة").
لقد أوْلى وليد سيف الخادم بدر مساحةً باهظةً في عمله، الباذخ في حيوية لغته وبلاغة مُرسلاته وتعدّد محكياته في جغرافياتٍ شاسعة في الشام ومصر وفلسطين والمغرب والأندلس و.... أعْمل مخيلته كثيرا، لمّا منح بدر، وشخصياتٍ أخرى عديدة، أثوابا لم تلبسها في محفوظات القدامى، وذلك لأنه لا يقصد تأريخا، وإنما أن يُجري على ألسنة الشخصيات وقائع تنطق بمفارقات التحالفات لمّا تصير عداوات، وبمفاجآت المصائر وغرائب الأقدار واحتدام الخصومات، وأن يبثّ في عبد الرحمن الداخل كل تناقضات الحكم وتحوّلاته، الفتى الأموي الذي كاد لا يحتمل نفسَه لما أجْهز على لصّ فاجأه وأراد قتله، في رمال صحراء قاسيةٍ، في واحدةٍ من وقائع الهروب الكبير، فيواسيه خادمه بدر، ويُعلمه إن هذا من تدابير الدنيا وتصاريفها، غير أن الأمير عبد الرحمن، تاليا، لا يرفّ له جفنٌ وهو يأمر بقتل آلاف الأسرى بعد معركتين مع خارجين عن سلطانه، ولا يكترث لاستفظاع بدر هذا منه. لا تؤاخِذه نفسُه عندما يأمر بقتل ولدي أخويه، بعد أن أغواهما حبّ السلطة، واندفعا إلى التآمر عليه .. يفزع الأمير الأموي (حكم الأندلس 33 عاما) كثيرا من تذكّر قتل أهل الرايات السود بوحشيةٍ أخاه الصغير قدّام عينيه، لكنه لا يفزع من غير هذا. وأنت قارئ "العنقاء والنار" يمسّك، على الأرجح، فزعٌ ليس هيّنا، من هوْل أعداد جثث المقتولين في الكتاب، ومنهم من عُلّقت رؤوسهم في الميادين، ومن أوتي برؤوسهم محشوّةً بالملح. قتل أبو جعفر المنصور عمّه، وأبا مسلم الخراساني الذي كان له سهمٌ كبير في إقامة دولة بني العباس. وفي آخر الصفحات، يحدّث عبد الرحمن الداخل خادمه العتيق، المبتعد عنه في خريف العمر، في مشهدٍ أخير، صنعه وليد سيف متخيّلا، على غير ما جاء به لسان الدين بن الخطيب، "ليس المغلوبُ في معيار الحقّ والدين أحسن من الغالب، ولكنه كذلك في معيار نفسه ومعيار من هم في طاعته ..". .. وهذه واحدةٌ من مفاتن غزيرةٍ في روايةٍ عن ماضٍ موصول بحاضر، ومستقبل ربما.