يا ثقيل الروح!
قال الجاحظ: جاءني يوماً بعض الثقلاء، فقال: سمعت أن لك ألف جواب مسكت، فعلّمني منها. فقلت له: نعم. فقال: إذا قال لي شخص، يا جاهل، يا ثقيل الروح، أي شيء أقول له؟ فقلت: قل له صدقت.
في هذه الحكاية الصغيرة التي يوردها الجاحظ بأسلوبه اللطيف، وإيجازه الشديد، تدليل على واحدة من نظريات التعلم بالتطبيق العملي، فمن الواضح أن السائل كان ثقيل الدم فعلا، ولم يكن أمام الجاحظ سوى معاملته كما يليق به، ومن دون الإخلال بمبدأ التعليم في أساسه، فهو هنا يريد أن يخبره بأنه ثقيل الروح وجاهل كما وصفه أحدهم، وبالتالي، لا جُناح عليه أن يقولها في وجهه، ولكن وفقا لأسلوبه، وهكذا ضرب عصفورين بحجر واحد، وأسكت سائله المباشر والقائل البعيد أيضا.
لا يهمّ بعد ذلك إن كان السائل قد فهم مغزى الجاحظ من الإجابة أو غاب عنه، بل لا يهمّ إن كانت القصة كلها حقيقية أو من اختراع الجاحظ الذي عُرف بمثل هذه الحكايات القصيرة الظريفة، والتي كان يوصل بها رسائله إلى القرّاء، وفقا لأسلوبه وطرافة تناوله من زواياه الخاصة.
المهم أن اللغة، التي هي وسيلة التواصل الأولى بيننا نحن البشر، عبر الكلام الذي يقال بالصوت، يمكنها دائما أن تخدعنا، ويمكن للكلمات نفسها أن تصل إلينا بأكثر من معنى، ويمكن أن يكون لكل واحدٍ من هذه المعاني المتعدّدة، وأحيانا المتناقضة، رسالته الخاصة. وفق السياق أحيانا، ووفق نيات الذي يقول هذه الكلمات ويركب من خلالها جمله وعباراته أحيانا أخرى، ووفقا للسامع أو المتلقي أحيانا ثالثة، فالمهم دائما ليس الكلمات، على أهميتها في المطلق وفي التعرّف المجرّد لها، بل الأهم منها الرسالة أو المغزى الذي استخدمت هذه الكلمات لتوصيله إلى المتلقّي من خلالها.
تعود الحكاية إلى زمن الجاحظ الذي عاش في القرن الثاني للهجرة، ثم رحل تاركا وراءه حوالى 360 مؤلفا فى موضوعات متنوعة، أشهرها: البيان والتبيين، والحيوان، والمحاسن والأضداد، وخلق القرآن، وغيرها من كتبه التي كان يؤلفها، خالطا فيها الحقيقة بالخيال والجدّ بالهزل، عبر الحكايات الشخصية والمواقف التي يمرّ بها أو التي يقنع قارئه بأنه قد مرّ بها ليحكيها في ما يشبه التجارب الحياتية، فقد كان يصنع سياقاته الخاصة زمانيا ومكانيا، ليضمن لها كثيرا من المصداقية التي تعتمد على المعايشة الذاتية. وهو ما يعيدنا إلى الحكاية التي بدأ بها هذا المقال، لنقرأها على سبيل الطرفة، قبل أن نعيد قراءتها مرّات ومرّات لنكتشف في كل مرّة مستوى من مستويات كتابتها أو ربما اختراعها.
لقد أراد الجاحظ في واحدٍ من مستويات تلقي هذه الحكاية الصغيرة المضحكة أن يعرف لنا الجواب المسكت، وأن يتّخذ من ذات السائل وأسلوبه بطرح سؤاله المعرفي الساذج أنموذجا حيّا ليطبق عليه التعريف من دون اعتراض لا منه ولا من أي قارئ محتمل للحكاية.
وما فعله الجاحظ قبل ألف ومائتي عام تقريبا تفعله هذه الأيام وسائل التواصل الاجتماعي وأدوات الإعلام الجديد ومنصّاته التي تقدّم لنا نماذج حية على ما يراد تعريفه وترويجه للتفاهة والسطحية التي يتصف بها كثيرون من مستخدمي هذه الوسائل. فما أكثر الجهلة وثقلاء الروح الذين يذهبون إلى منصّات التواصل الاجتماعي، ليسألونها السؤال ذاته تقريبا، ولكن عبر كلمات أخرى بالتأكيد، فيقرأون مثل هذه التوصيفات والتعريفات التي تعرف بهم وتصفهم بالكلمات المجرّدة والمحايدة كنماذج للسطحية وصور حية للتفاهة، بل ويساهمون بترويجها، غالبا من دون أن يعرفوا أنهم المقصودون بها، تماما كما يبدو أن سائل الجاحظ قد فعل!