يتحدّثون في تونس عن "تطهير الإدارة"
يجري الاستعداد في تونس لطرد عدد هام من الموظفين العاملين في القطاع العام ومؤسسات الدولة، بتهمة حصولهم على الوظيفة بطرق غير شرعية وخدمة أغراض سياسية، إلى جانب تزوير الشهادات العلمية، وعدم الكفاءة. وذلك كله تحت شعار ملغّم ومخيف، تطهير الإدارة.
تتنزّل هذه الحملة في سياق البحث المتواصل عمّن يقف وراء محاولات "إسقاط الدولة من الداخل" و"العبث بمقدّرات الشعب". وبما أن وعودا وقرارات عديدة للرئيس قيس سعيّد لم تتحقق ولم تتقدّم، ولا يزال كثير منها في حالة توقّف، فإن المتسبّب في ذلك من وجهة نظر الرئيس سعيّد هم "المندسّون في الإدارة"، الذين آن الأوان لاقتلاعهم من وظائفهم ومحاسبتهم، باعتبار أنهم مسؤولون عن هذا التعطيل، سواء بحكم عدم الكفاءة أو لأنهم يخدمون أجندة من وضعهم في تلك المواقع.
يبلغ عدد الموظفين في القطاع العام حوالي 660 ألف شخص، وهو رقم كبير مقارنة بحجم السكان، وأيضا مقارنة بدول أخرى شبيهة، لهذا يبلغ حجم أجور هؤلاء 40% من ميزانية الدولة. لهذا السبب، كثر الحديث في التقارير الدولية عن ظاهرة التضخّم الإداري في تونس التي أصبحت مطالبةً من صندوق النقد الدولي بالتخفيض في عدد الموظفين، إلى جانب الامتناع عن قبول موظفين جدد في أجهزة الدولة والقطاع العام.
من أسبابٍ مباشرةٍ أدّت إلى جدل واسع بشأن هذه المسألة الانتدابات التي وصفت بالعشوائية، والتي حصلت بعد الثورة للمتمتّعين بالعفو التشريعي العام، وكان عددهم 6839 شخصا، إلى جانب إقحام عملة المناولة والآلية 16 الذين بلغ عددهم حوالي 54 ألف عامل. وأثبتت الدراسات أن عدد الموظفين في تونس قد تضاعف منذ الاستقلال 16 مرّة. وبما أن معظم الذين استفادوا من العفو التشريعي ينتمون إلى حركة النهضة الذين جرى سجنهم وملاحقتهم قبل 2011، لهذا السبب، تم ربط مسألة تطهير الإدارة باحتمال استهداف حركة النهضة من رئيس الدولة، ما أكسب القضية بعدا سياسيا ستكون له انعكاسات خطيرة في حال جرى تنفيذ ما يجري الحديث عنه في الكواليس.
أصبح واضحا أن رئيس الحكومة الجديد، أحمد الحشاني، هو الذي سيتولى تنفيذ "خطة" تطهير الإدارة. والسؤال حاليا يتعلق بالمقاييس التي سيجري اعتمادها، والآليات الإدارية والتشريعية التي سيقع اللجوء إليها. ومن سيدير عملية التطهير التي ينتظر منها أن تفضي إلى طرد آلاف الاشخاص. ولن يقف الأمر عند ذلك، بل ستتم محاسبة الذين جرى توظيفهم عبر المحسوبية والولاءات الحزبية الذين سيُجبرون على إعادة الأجور والمنح التي تمتعوا بها "بدون وجه حق" خلال السنوات الأخيرة. وهذا يعني أن الأيام المقبلة ستشهد تصفية واسعة النطاق لقسم مهم من التونسيين الذين ستلاحقهم تهم عديدة ومختلفة، فهل سيكون هذا أسلوبا ناجعا لمعالجة ملفٍّ مزمنٍ يتعلق بعصب الدولة وبأجهزتها الإدارية.
لا خلاف على أن ثمّة أزمة في الإدارة التونسية. لكنْ هناك فرق شاسع بين الإصلاح الإداري، وهو مطلب شرعي وضروري، وقد طُرح منذ الأشهر الأولى للثورة، والحديث عن تطهير إداري، فالإصلاح عملية عقلانية تتم وفق آليات موضوعية تتجاوز الأشخاص والأطراف، في حين أن التطهير كلمة مشحونة بالرغبة في الانتقام والاستئصال. ويخشى أن تترتب عنها مظالم ومآس لا تُحمد عقباها، خصوصا في أجواء تتسم بالكراهية والرغبة في الانتقام وتصفية الخصوم.
كما يجري الحديث أيضا عن موظفين استعملوا شهادات جامعية مزوّرة، وهي مسألة خطيرة ولا أخلاقية، لكن لا أحد قادر على تحديد عدد هؤلاء لمعرفة حجم الظاهرة وتداعياتها. مع ذلك، هناك من سمح لنفسه بالقول إن هناك عشرات الآلاف من المزوّرين، فإن صحّ ذلك سيكون من تداعياته توجيه ضربة قاصمة لصورة الدولة والإدارة التونسية.
باختصار شديد، يخشى أن تخاض معركة على هذا المستوى من الخطورة بكثير من الارتجال والتسرّع، أو أن يتم تحويل الإدارة إلى مجال مفتوح لنوع من المكارثية على الطريقة التونسية.