يحدُث في جبهة الحرب الثالثة
على سبيل التفاخر والتكبّر والاعتداد المُفرِط بالنفس، وإشاعة شعور دائم بالعجز وقلّة الحيلة لدى العدوّ، ناهيك عن تعظيم الصورة الانطباعية عن القوّة الكامنة والقدرة الفائقة على تحقيق العجائب والخوارق، وكلّ ما لا يستطيع تحقيقه الآخرون، درج آباء المشروع الصهيوني، طوال الوقت الطويل، على زعم إنّهم قاتلوا سبعة "جيوش" عربية عام النكبة، وانتصروا عليها من دون مراء. وها هم أحفاد إرهابيي "هاغانا" و"أرغون"، يكرّرون ذلك الادعاء، بلا تفاخر كثير هذه المرّة، قائلين إنّهم يحاربون في سبع جبهات، إحداها (الشمالية) جبهة إسناد وازنة في أقلّ تقدير، وقادرة على كسر التوازنات بالفعل.
الحديث هنا مُقتصر على الجبهة الثالثة، الناشبة في الساحة الخلفية حيناً، والمنجلية في المقدّمة في أحيان، ساحة الإدراك الحسّي والوعي والمراجعات الذاتية، بزخم يكاد يُعادل زخم الحرب على غزّة، حيث الجبهة الأولى، وبأهمّية تُناظر أهمّية المعارك في عموم الضفّة الغربية، خاصة شمالها (غزّة المصغّرة)، حيث الجبهة الثانية، وهو ما يستحقّ، والحالة هذه، تكثيف الضوء على الجبهة الثالثة، وطرح معطياتها للنقاش العام، سيّما أنّ نتائجها الأولية طيّبة، وفضاءاتها الرحبة أوسع من فضاء الحرب في الجبهتَين معاً، كما أنّ إرهاصاتها المُبكّرة، المتشكلة في هذا المخاض العسير، مُبشّرة حقاً، وواعدةٌ بتسجيل مزيد من النقاط فوق الحلبة الممتدّة من نيويورك إلى لاهاي.
ومن دون التقليل من أهمية الحرب في الجبهة المركزية في غزّة الباسلة، حيث حدثت المفاجأة الاستراتيجية، ومن غير تبخيس لجدوى المواجهات على أيّ جبهة مُسانِدة، قد تكون الحرب في جبهة الوعي هذه أكثر هذه الجبهات أهمّية، وإن كانت أقلّها سخونة، نظراً إلى ما تنطوي عليه آيات الصمود الإعجازي للناس من ناحية، والأداء المُذهل للمقاومة من ناحية أخرى، من تفاعلاتٍ عميقة الغوْر، ونتائج إيجابية أتت كلّها فوق مستوى التوقعات، فضلاً عن تراكم جملة تداعياتٍ مواتيةٍ تخاطب مستقبل الصراع المفتوح في مدياته الواسعة أكثر ممّا تخاطب راهن هذه الحرب التي طاشت سهامها، وبشّرت بتحقيق أول هزيمة نكراء لدولة الاحتلال والاستيطان والإجرام. ففي الشهر التاسع من عمر هذه الحرب الانتقامية العمياء، جرى، بكلّ جلاء وصبر وحسن أداء، كيّ وعي مجتمع كان قادته وأركان جيشه يسعون، بكلّ ما راكموه من عوامل قوّة، إلى تكريس الهزيمة التاريخية، والتسليم بها حقيقةً نهائيةً، ومن ثمّ، تعميق قواعد المعادلة القائمة على منطق السيّد والمَسُود، وتعزيز أسس المفهوم القائل إنّ تفوّق القبيلة العبرية الممتازة على سائر القبائل العربية الرثّة جيني وأبديّ، وإنّ الاحتلال دائم إلى أبد الآبدين، ليأتي "طوفان الأقصى" على حين غَرَّة، ويقلب عاليها سافلها، ويطيح في ست ساعات (عادلت حرب الأيّام الستّة) كلّ ما كان يبدو راسخاً في الوعي على ضفَّتَي الصراع.
إذ بعد طوفان الأقصى، الذي جاء فيضانه هائجاً مائجاً، وأعلى مما كان يخطُر على بال ربابنة سفينة التيتانك، المتهادية باطمئنان في أعالي البحار، أخذت التحفة السياحية الفارهة هذه في الغرق التدرّجي، وراح ركّابها، وقد نالت منهم الصدمة واستبدّ بهم الهلع، يتبادلون التهم وسط عويلٍ شديد، سُمع خلاله كلام لم يجرِ على ألسنتهم من قبل قطّ، من قبيل؛ ما دهانا أيّها القوم في ذلك السبت؟ كيف وقعت سفينتنا في حوّامة الّلجّة العميقة الزرقاء من دون إنذار؟ لماذا وضعنا خشبة خلاصنا الأخيرة بين أيدي الجنائيين والمجانين، الذين استولوا على المصحّة العقلية أمام أنظارنا، وقادوا الدولة المفتونة بريش نعامها، الغارقة في سبات سبتها، ونحن نراقب المشهد بعيون مفتوحة، وهؤلاء الأوغاد والسفلة الصغار، يبحرون بنا، هكذا، إلى بحر الظلمات؟
بكلام آخر، حدَثت، ولا تزال تحدُث، في جبهة الحرب الثالثة، مُتغيّراتٌ لا سابق لها في تاريخ الصراع، وتشكّلت، في غضون حرب الإبادة الشاملة، هذه، حالة وعي جنيني لا تزال سيرورته في طور المخاض والاختبار، وذلك، على خلفية واقع مُستجدّ على الأرض وفي الأذهان، ومتغيّرات لا حصر لها عصفت بكلّ ما كان، انهارت في معارجها قيم ومُثل وقواعد ومبادئ ومزاعم وأوهام وأساطير ورهاناتُ وافتراضات، وانبثقت من رحمها حقائق طازجة بعد، لعلّ في مقدّمها كسر شوكة دولة الاحتلال، كشف عورتها، بواطن ضعفها، عزلها ونبذها وإعادة تعريفها دولةً مجنونةً مارقةً، تتصدّر قائمة العار، يقف في رأسها مُجرم حرب مطلوب للقضاء في لاهاي، وفوق ذلك كلّه، انقلب في خضمّها السحر الأسود على الساحر الماجن، وانقضى بهذا وذاك عهد الإفلات من العقاب.