يعوز اللبنانيين كل شيء
عامٌ على انفجار 4 أغسطس/ آب يحلّ خلال أيام. عام كأنه أمس، عندما اهتزّت الأبنية والشوارع، وتفجر كل ما فيها حتى خُيّل لكل من وُجد في العاصمة أن الانفجار بقربه. منذ ذلك التاريخ المشؤوم، يعوز اللبنانيين، سكان بيروت تحديداً، كل شيء. الإحساس بالأمان مفقود، يكفي لأي صوتٍ مرتفع أن يستحضر لحظات الانفجار، ليبدو أنه وقع اليوم لا قبل 12 شهراً، ولتحضر الخشية من كارثةٍ جديدة. لا شيء يضمن عدم تكرار ما جرى، ما دام ممنوعاً الوصول إلى أجوبة عن كيفية حدوث الجريمة، وأين ذهبت باقي مواد نترات الأمونيوم التي انفجرت ودمرت العاصمة.
كل تفصيلة، تصريح، حدث في لبنان، يحيل على ذلك اليوم، ويجعل من القدرة على تحمّل الحياة في العاصمة المنكوبة بمثابة مهمة شاقّة وقاتلة. .. دائرة الانفجار يبدو أنها كمن ابتلعت من كانوا ضمنها. تستنزفهم عقلياً ونفسياً. تساؤلاتهم كثيرة، ويقينهم شبه معدوم.
يفتقر اللبنانيون إلى تحقيق العدالة للضحايا الأموات والأحياء. وذلك يبدو أنه مطلبٌ بعيد المنال، أو أقلّه دونه عقباتٌ يصعب تجاوزها، بل يحتاج التغلب عليها معارك قضائية وسياسية وشعبية. وجلّها غير متوافر حالياً على النحو المفروض. في كل يوم إضافي يمرّ على الجريمة تثبت السلطة، بمختلف أركانها، أنها ماضية في طمس الحقيقة. هي لا تريد إقناع أحد بأنها غير مذنبة، بعد السماح بتخزين أطنان نترات الأمونيوم في المرفأ، والإبقاء عليها على الرغم من خطورتها ووضعها مع مواد قابلة للاشتعال. هي لا ترغب في الدفاع عن نفسها في مواجهة جريمة العصر. ببساطةٍ، تمارس لعبتها المفضلة "منع المحاسبة"، مثلما لم يحاسب أي من أفراد هذه الطبقة السياسية على جرائمه منذ الحرب الأهلية. بل على العكس، استفاض كلٌّ بطريقته الخاصة بانتهاكاته ضد اللبنانيين، محوّلين حياتهم إلى جحيم على الأرض. كل يوم مصيبة إضافية. اعتاد اللبنانيون الاغتيالات السياسية والمعارك والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، لكنها لم تجتمع عليهم في العقود الأخيرة دفعة واحدة كما يجري الآن. حديث الانهيار ليس من باب التهويل أو التضخيم المعتاد لدى كثر. فما الذي يمكن أن يكون أسوأ مما يعيشونه يومياً في الآونة الأخيرة؟ ساعة تغذية واحدة بالكهرباء من أصل 24 توفرها الدولة، فيما يتحكّم أصحاب المولدات، كل حسب مزاجه، بساعات الكهرباء الأخرى. من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب لا نقطة مياه من الدولة، لكن شراءها من أصحاب الآبار متوافرٌ، ما دامت هناك أموال ستدفع.
لا بنزين يكفي في المحطات، لكنه لا ينضب في السوق السوداء. لا إشارات مرورية حتى. مشهد تزاحم السيارات للمرور على التقاطعات، صريخ السائقين، الأبواق، المسبّات تكاد تصلح لمشهد سينمائي. لكنها واقعية، بل واقعية جداً. هذا ما يعيشه هذ الشعب.
تخلّت الدولة رسمياً عن مسؤولياتها. حتى إنها غير راغبةٍ في إدارة الفوضى إلا بحدّها الأدنى. يكفي مشهد العناصر الأمنية على محطّات الوقود وهم يفضّون الإشكالات بين المواطنين. على أن هذا المشهد لن يطول، سيختفي تماماً عندما يُرفع الدعم عن هذه المادة، كما حصل في السوبرماركت والصيدليات. امتلأت الرفوف بالزيت المنزلي والحليب والسكر، وكل ما كان غائباً خرج من المستودعات إلى الواجهات، إنما بأسعار أغلى بنحو عشر مرات. جشع لا ينضب. الجميع ينهب الجميع، دائرة مغلقة لا تأكل نفسها، بل تطحن اللبنانيين.