يوسف إدريس أم خالد يوسف؟
يحدُث عندما يُشقلب مخرجٌ أو سيناريست (أو اثناهما معا) أحداث قصّةٍ أو روايةٍ في مسلسل تلفزيوني أو فيلمٍ سينمائي، ويغيّر في أزمنتها وبعض تفاصيلها، ويأخذُها إلى مضامين غير التي أرادها كاتب العمل الأدبي، أن يستقبل بعضٌ هذا بإطراءٍ وثناء، إذا كان الشّغل الدرامي موفّقا وعلى سويّةٍ من الإقناع. ويحدُث أن يُغضِب هذا الفعل غاضبين، فيروْنَه اعتداءً على النص، وافتراءً على صاحبه، سيّما إذا أخذَه الشغل إلى توظيفاتٍ ومطارحَ لا يؤشّر إليها. والبديهيّ الذي يحسم أخْذا وردّا مثل هذيْن أن المسلسل (كما الفيلم) لمُخرجِه فقط، يُحسَب عليه (وعلى كاتب السيناريو)، والرواية (والقصّة) مخصوصةٌ بكاتبها. ولهذا، ليس الذي أعْمَلَه المخرج خالد يوسف في قصّة يوسف إدريس "سِرُّه الباتع" لمّا صَنّع منها مسلسلَه بالاسم نفسه (شوهد في رمضان المنقضي) اعتداءً على تلك القصّة الطويلة (نحو 60 صفحة) التي نشرَها إدريس في مجموعة قصصية في يناير/ كانون الثاني 1958، ولا افتراءً على الأديب الكبير (حرص تِتر المسلسل على هذه الصفة). وقد شقلَبَ فيها الكثير، وجعل أجواء ثورة يناير (2011) حتى لحظة عزل الرئيس محمد مرسي (يوليو/ تموز 2013) الزمن الموازي لزمن الحملة الفرنسية على مصر (1789 – 1801)، فيما الذي يُوازيه في القصّة زمن العدوان الثلاثي على مصر في 1956 (إشارة في جملتيْن). ومقصَد خالد يوسف من هذا، وهو صاحبُ المعالجة الدرامية، وكاتب السيناريو والحوار (بمشاركة خالد كسّاب ومصطفى إبراهيم)، منطوقٌ سياسيٌّ محدّد، بينما يغيب تماما عن قصة يوسف إدريس أيّ قولٍ سياسيٍّ أو إيحاءٍ به، وهذا أجملُ ما فيها، فيما منطوقُ خالد يوسف أسوأ ما في مسلسله الذي بدت فيه مشهدياتٌ ولمساتٌ إخراجية عالية المستوى، وإنْ مع أخطاء وسَقَطاتٍ كبرى وصغرى.
لم يكن افتراءُ خالد يوسف (وشريكيْه؟) واعتداؤُه على يوسف إدريس وقصّته، وإنما على الفن نفسِه، عندما أرادَه وسيلةً لا لبثّ مقولةٍ سياسيةٍ أو فكرةٍ اجتماعية، فهذا من حقوقِه، وإنما لبثّ دعائيةٍ سياسيةٍ باهظة الفجاجة. مُرادُه من المسلسل، وهي المرّة الأولى التي يصنع فيها دراما تلفزيونية (قال إنها الأخيرة)، أن طردَ المصريين محتلّيهم الفرنسيين في حملة نابليون يُساوي بالضبط (لا يُماثل وحسب) طرد الإخوان المسلمين من الحكم في مصر. أقام تداخلا بين مشهديات مجاميع الجنود الفرنسيين يغادرون مصر، وقد أنجزَها مُخرجا، ومشهد جموع المحتشدين يوم 3 يوليو (2013)، مبتهجين بصورة عبد الفتاح السيسي على شاشة التلفزيون يعلن ما أعلنه ذلك اليوم (قيل إن الجيش المصري أعطى خالد يوسف نفسه تسهيلاتٍ ومروحيةً لتصوير هذا المشهد؟). وبينما كان المسلسل تتتابع فيه مشاهد بطولات الفلاح المصري "حامد" ورفاقِه في بلدةٍ مصريةٍ، في تدبير الكمائن وعمليات المقاومة ضد العساكر الفرنسيين، كانت مشاهد أخرى تتوازى لإخوانٍ مسلمين ملتحين بعد ثورة يناير يكيدون للسيطرة على البلد، ويُخادِعون، ويدبّرون جرائم، ويتعاطفون مع قتلة جنودٍ مصريين في سيناء، ويتحالفون مع رجال أعمالٍ فاسدين، ويزاولون انتهازيّتهم في غير شأن. وفيما يؤدّون الصلاة في المساجد، يراوغ أحدُهم، أمكن له أن يصير نائبا منتخبا، من أجل تزويج فلانٍ بفلانة، وإن مع انتقامٍ من أخيها بقتله، و"يزبّطون" كراتين تموينٍ لجمهورهم. ومع تعاظم المقاومة التي تُكبّد العسكر الفرنسيين خسائر كبرى، وبتخطيطٍ من "حامد" يُؤسَر قائدُهم في البلدة، (مع مبالغاتٍ غير موفقةٍ أحيانا)، تتعاظم مقاومة الشباب المصري في اعتصاماتٍ سلمية وفي حركة "تمرّد" للخلاص من "حكم الإخوان" ورحيل مرسي. ونسمع من عالم الآثار والمخطوطات (محمود قابيل) إن الإخوان، كما كان الفرنسيون في حملة نابليون، يحاولون تغيير هوية مصر، ولن يفلحوا، وكما هُزم أولئك سيُهزمون.
ليس من الفن كل هذا الانكشاف الدعائي، المُفرِط في خفّته، في مسلسل "سرّه الباتع" الذي أنتجته شركةٌ، يُشاع إنها للمخابرات المصرية. وكم كان الفن عاليا في قصة يوسف إدريس التي بدا فيها تصوير حيرة الراوي ومحاوراتِه نفسَه فيها حامد فتىً وشاباً وكهلا، في شأن "السلطان حامد"، غايةً في الرهافة، وشائقا، قبل أن يُطالع رسالة مؤرّخٍ فرنسي. لم يأت يوسف إدريس على زعامة جمال عبد الناصر التي تعزّزت في غضون حرب 1956، التي تعرّفَ في أثنائها الراوي في مستشفى (كان إدريس طبيبا حينها) على سيّدةٍ أجنبيةٍ يسّرَت له قراءة الرسالة الكاشفة. لم يكن مشغولا إلا بفن القصّة، على غير خالد يوسف المشغول بزعامة السيسي، لا بفن الدراما.