11 سبتمبر وقوة الأيديولوجيا
لكل زمنٍ محطته الفاصلة. محطة تُنهي مرحلة وتبدأ أخرى. في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 لم تتغيّر أميركا وحدها، بل العالم بأسره هو ما تغيّر. لم يكن مشهد اصطدام طائرتين في برجي التجارة العالمي في نيويورك عادياً، ولا عابراً. منذ الساعة 8.46 صباحاً، لحظة ارتطام الطائرة الأولى في أحد البرجين، وُلدت لحظات عديدة، منها 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2001 الأفغاني، و9 إبريل/ نيسان 2003 العراقي. لا يُمكن لأي إنسان على وجه الأرض تجاهل هذا اليوم، الأكثف تاريخياً منذ الهجوم الياباني على بيرل هاربر في هاواي الأميركية في 7 ديسمبر/ كانون الأول 1941. في مثل هذا اليوم منذ 20 عاماً وُلدت الأسئلة المتطرّفة التي يفترض بها أن تشطر العالم إلى أقسام متضادّة، في استنساخ شكلي لغزوات القرون الغابرة بين الشرق والغرب، لكن في عصرٍ كان يستعدّ للانطلاق إلى رحاب العالم الافتراضي.
لم تبقَ الأسئلة المتطرّفة مكانها، بل وُجدت لها أجوبة متطرّفة، ساهمت في إسدال الستار على وعيٍ كان يتأهب للتحليق، ومؤسسة لأجيالٍ جديدة تعتقد أن ما قبل 11 سبتمبر كان العدم وما بعده هو كل شيء، أو كل الحياة، كما تظنّ. هنا يطرح السؤال نفسه بيننا وبين أنفسنا، نحن الذين كنا شهوداً على عصرٍ سابق لـ11 سبتمبر وبعده: هل كان كل شيء ليتغير لو لم تحصل تلك الاعتداءات، أو أنها كانت حتمية في سياق تاريخي تلا مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، ويفترض حصولها في وقتٍ ما بناء على ديالكتيكية ما، أو حتى وفقاً لـ"صدام الحضارات" بحسب صمويل هنتنغتون، و"نهاية التاريخ والإنسان" بحسب فرنسيس فوكوياما؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال، يمكن الانتقال إلى سؤال آخر: هل الصدام عامل حتمي بين البشر، أو أنه كان يُمكن تجاوزه في لحظةٍ، يُمكن تصنيفها بـ"الإنسانية" في نقطة ما؟
للسؤالين إجابة واحدة: قوة الأيديولوجيا المتطرّفة التي تميّز بين البشر، المستندة في الأساس إلى جدلية تحرّك التاريخ في مختلف مساراته. وهي القوة نفسها التي أتاحت لحركة طالبان مثلاً أن "تثأر" من عدوّها القديم، أحمد شاه مسعود، في تدمير ضريحه في وادي بانجشير. وهي القوة نفسها التي دفعت الولايات المتحدة إلى التصرّف كجندي قذر في أحيان كثيرة من تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، أو كشرطي مسالم في أحيان أخرى. وهي القوة نفسها التي تغلغلت في خوارزمية متشعّبة تنشأ عنها حروب لا تنتهي، وتحت عناوين لا تنضب.
يُمكن لأي فرد منا أن يعود بالذاكرة إلى يوم 11 سبتمبر، ويحاول أن يستذكر تفاصيل أو جزئيات من يومه، وحتى إذا استطاع أن يتذكّر طريقة تفكيره، وما الذي كان يسعى إليه أو يعمل بموجبه، ثم يقارن بين ما حصل وما يحصل حالياً، وكيفية تحوّل العالم من حالٍ إلى حال بسبب هذه اللحظة، وصولاً إلى علاقة ذاك النهار بتفاصيل يومياته الحالية. سيرى من حيث لا يدري تشابكاتٍ عدّة، وسينتبه إلى أن العالم ليس جزراً معزولة، ولا قدرة لأحد على عزل نفسه لو شاء. العالم "قرية صغيرة" حقاً، والعزلة ليست خياراً فيه. أليس الاحتباس الحراري وفيروس كورونا نموذجين؟
تاريخياً، لا تتغيّر لحظة مفصلية إلا بأخرى مماثلة، على أن سلوك تلك اللحظات دائماً ما يكون مفعماً بردود فعلٍ متبادلة، تؤجّجها قوة الأيديولوجيا وأنهر الدمّ، ولا تنتهي إلا بانتهاء دورة حياة أجيال برمّتها أو قيام سلامٍ غير خبيث، ولا يمهّد لحروبٍ أخرى. هل هذا ممكن، أقلّه في يوم ما في المستقبل؟ نعم، شرط حصول لحظةٍ مفصليةٍ تؤسّس لجدليةٍ مختلفة عمّا سبق، وبغياب التمييز الأيديولوجي. عدا ذلك، لن يبقى 11 سبتمبر مجرّد ذكرى، بل سيتكرّر في أي لحظة في تاريخنا، بدءاً من اليوم.