14 يناير .. يوم الثورة التونسية
بعد نحو 27 شهرا من انتخابه رئيسا لتونس، يجد الرئيس قيس سعيّد نفسه شبه معزول، بعد أن انقلب على حلفائه، وتخلّى عنه أقرب الناس إليه ربما كانوا يدعمون انقلابه، وبات صديقه الجديد الوحيد هو فيروس كوفيد الذي أثبتت طرق مكافحته في الدول السلطوية مدى فعاليتها أيضا لمنع أي تحدٍّ لقراراتها، خصوصا عندما تكون صادرةً عن مؤسسات غير منتخبة أو فاقدة كل مصداقية. جديد مفاجآت سعيّد، الذي يفقد يوميا ما تبقى له من رصيد مصداقيته داخل بلاده وخارجها بسبب قراراته المفاجئة والغريبة منذ إعلان انقلابه في 25 يوليو/ تموز الماضي، تغيير تاريخ يوم الاحتفال بالثورة التونسية الذي اختار له التونسيون، وتبعهم في ذلك العالم، تاريخ 14 يناير/ كانون الثاني، يوم هروب الديكتاتور التونسي المخلوع، زين العابدين بن علي، عام 2011. وطوال الأعوام العشرة الماضية، ظل التونسيون يحتفلون بثورتهم في مثل هذا اليوم الذي دخل إلى التقويم العالمي، باعتباره يوم الثورة التونسية التي أطلقت شرارة ثورات "الربيع العربي"، وتجاوزت رياحها تضاريس الخريطة العربية لتهبّ على ثوار ساحة "تايم سكوير" في نيويورك مع حركة "احتلوا وول ستريت"، وثوار ساحة " بويرتا ديل سول" في مدريد مع حركة "لوس أندينيوس" (الغاضبون)، وألهبت حركات ثورية كثيرة غاضبة شهدها العالم عام 2011، وما زال صدى كثير منها يتردّد في السودان ولبنان وفي العام الماضي فقط في الجزائر، ما يدل على أن البركان، وإن خمد، ما زال نشطا يهدّد بالانفجار في كل لحظة.
اختار قيس سعيّد بعناية، وربما عن سابق إصرار وترصّد، يوم 14 يناير، مع ما يحمله هذا التاريخ من حمولة رمزية تونسيا وعربيا وعالميا، ليعيد إلى ذاكرة التونسيين أساليب القمع التي دفعتهم إلى الثورة ضد ديكتاتورية بن علي، ففي ذكرى ثورة التونسيين أخرج من أقبية مبنى وزارة الداخلية الغاز المسيّل للدموع وخراطيم المياه والحواجز الحديدية لإغلاق كل منفذ إلى شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية. أراد سعيّد، وبكثير من الإصرار، أن يذكّر العالم بأن الدولة البوليسية التي بناها بن علي طوال 23 سنة من حكمه الاستبدادي ما زالت حاضرة في تونس بكل أساليبها القمعية التي أظهر قمع يوم الجمعة الماضية أنها ما زالت فعالة وفتاكة.
نسي قيس سعيّد، الذي حملته رياح الشعبوية إلى الحكم، أن تاريخ الثورة التونسية الحقيقي ليس ما تسنّه "مراسيمه"
ولكن قيس سعيّد، الذي حملته رياح الشعبوية إلى سدّة الحكم، نسي أن تاريخ الثورة التونسية الحقيقي ليس ما تسنّه "مراسيمه" و"فرماناته"، لأن تاريخ الثورات تكتبه الشعوب بدمائها، وتحفظه في ذاكرتها الجماعية التي تنتصر، في الأخير، على كل القرارات الطائشة التي يدّعي أصحابها أنهم قادرون على تغيير التاريخ بفرضها وإعادة كتابته بما تشتهيه أنفسهم المريضة. ولنا في التاريخ أمثلة كثيرة على قرارات اتخذها مستبدّون في لحظة تسلطهم وجبروتهم، لكن ما إن يذهب المستبد حتى يعود الماء إلى مجراه الطبيعي، شاقّا مساره الأبدي نحو مصبّه النهائي.
عندما يسعى قيس سعيّد إلى تغيير تاريخ ذكرى الثورة التونسية، لا يفعل سوى إعادة عقارب التاريخ إلى الوراء، إلى البدايات الفوضوية التي أعقبت الانتصار الأول للثورة الفرنسية عام 1789، عندما دعا بعض أشباه "الثوار المتطرّفين" إلى سنّ قرارات مضحكة، تقضي بتغيير كل ما يمتّ للملكيّة بصلة، بما في ذلك تغيير التقويم وطريقة احتساب الوقت ووحدات قياس المسافات والأوزان. ولكن ما إن تم وضع حد للفوضى التي صاحبت الموجة الأولى من الثورة الفرنسية، واختفى كل أولئك "الثوار المزيفين" حتى سقطت كل التغييرات التي حالوا دون فرضها على المجتمع، وحلّت محلها تغيرات عقلانية مدروسة، فرضت نفسها داخل فرنسا وخارجها، وما زلنا نعتمد الكثير منها في حياتنا اليومية، مثل وحدات القياس والأوزان. وكذلك سيكون مآل التغيير الذي يريد أن يفرضه سعيّد بالقوة لتحوير التاريخ القريب للثورة التونسية وتزويره، فلا أحد يتذكر اليوم تغييرات الثوار الفرنسيين، وعندما نفعل ذلك، فإنما على سبيل العبرة. وليس غريبا أن نجد من بين أولئك "الثوار الفرنسيين المتطرّفين" شخصية هي نموذج للشخصيات الانتهازية التي تظهر في صلب الثورات الكبرى، اسمه جوزيف فوشيه (1759 - 1820). ولولا أن سعيّد يفتقد إلى الكثير من دهاء فوشيه هذا ومكره، لكان أقرب شخصية يمكن تشبيهه بها، ولو أن النسخة في هذه الحالة ستكون مشوّهة إلى حد كبير. ومع ذلك، تتقاطع الشخصيتان بما أنهما تشتركان في طبائع كثيرة، ظهر فوشيه فجأة في قلب أحداث الثورة الفرنسية ثوريا متطرّفا في مواقفه، عندما يقتضي الأمر التطرّف، ومعتدلا محافظا بل رجعيا، عندما عادت الملكية إلى الحكم. شغل منصب وزير الشرطة في كل الحكومات التي تعاقبت بعد الثورة الفرنسية، سواء الثورية أو الملكية منها، وكان يسعى إلى إعلان نفسه رئيسا لأول جمهورية فرنسية، عرف بانتهازيته ومكره وخداعه، فهو ثوريٌّ ومحافظ، جمهوري وملكي، مصلحي إلى أقصى الحدود، تكاد تعميه مصلحته عن كل شيء، حتى عن مبادئه التي يدّعيها وأصدقائه الذين خدعهم، مع الحرية وضدها في الآن نفسه. يتحدّث باسم الثورة، وفي الوقت نفسه، يقمعها ويتآمر ضدها. ولا غرابة أن سعيد يشبه، في بعض مواقفه، مواقف فوشيه الذي اشتهر بقدرته الخارقة على التلاعب بالجماهير وتأليبهم ضد خصومه، وسيرة سعيّد، في سنتين ونيف من وجوده على رأس السلطة في بلاده، تُظهر لنا كيف نجح، من خلال خطاباته الشعبوية، أن يزرع داخل المجتمع التونسي الكثير من الاصطفاف الحاد الذي لم يكن موجودا، على الأقل بالحدّة نفسها الموجود عليها اليوم.
عندما يسعى قيس سعيّد إلى تغيير تاريخ ذكرى الثورة التونسية، لا يفعل سوى إعادة عقارب التاريخ إلى الوراء
كان فوشيه يدرك أن من يحصد ثمار الثورة ليس من يبدأها، وإنما من ينتهي عنده حصادها، واعتقد أنه سيلوذ بغنيمتها عندما يقضى على جميع خصومه من ملوك وثوار، لكن رياح التاريخ لم تكن تهبّ دائما في الاتجاه الذي كان يقود نحوه مراكبه فكانت نهاية، على الرغم من انتصاره على كل خصومه، مأساوية كئيبة، عندما وقع ضحية مكائده ومكره، ونجح في النفاذ بجلده من حكم الإعدام تحت قاطِع المقصلة، لينتهي ذليلا منبوذا منسيا في قريةٍ نائيٍة بعيدا عن سماء باريس التي شغل ناسها وملأ دنياها عدة عقود بمكره وخداعه. تلك نهاية الماكرين، ولا نتمنّاها للرئيس سعيّد لأنه حتى عندما يريد أن يمكر يفعل ذلك بطريقة فجّة وساذجة تثير الشفقة عليه أكثر من السخرية منه، وأبعد من ذلك الحقد عليه، وإنما الخوف عليه وعلى بلاده وشعبه من سلامة عقله.