.. ولا يزال الانقلاب يغتال الجامعة
كما أكدنا من قبل، فإن الانقلاب العسكري في مصر، في 3 يوليو/حزيران، كان مقدمة لانقلابات في كل شيء. كان انقلاباً حقيقياً على مسيرة وطن وثورة شعب وأمل ومستقبل شباب. حاصر مبكراً كل الميادين المحتملة التي تشكل موقفاً مضاداً له. وبدت الجامعات أهم تلك الميادين التي واصل الانقلاب، ببطشه وطغيانه، عملية اغتيال متعمدة لها، وكذلك لكل عمل ناهض يمكن أن تقوم به وعليه.
كان القرار الانقلابي بالارتداد إلى تعيين القيادات الانقلابية، بعد أن قررت الثورة اختيارهم انتخاباً، فإذا بالانقلاب، وقد اغتصب السلطة وضرب بالاستحقاقات الانتخابية عرض الحائط، يفرض على مجتمع الجامعة فرضاً وغصباً، فيقوم المنقلب بتعيينهم في رئاسة الجامعات وعمداء الكليات، وجعل من التعيين، بدلاً من الانتخاب، عملاً متسقاً مع غصبه السلطة، فيصدر الغاصب قراراتٍ بتعيين من هم أصحاب ولاء وانتماء إلى سياسات الانقلاب. وتحرك الأمر ضمن عملياتٍ هي أشبه ما تكون بالانقلاب داخل هذه المؤسسات المدنية، وعلى الجامعات ومكتسباتها بعد ثورة يناير، وفي حركة تدل على عسكرة المجتمع والجامعات، فإن المنقلبين سمحوا بدخول الدبابة والمدرعة إلى الجامعة وتدنيس حرمها، وقتل طلابها واعتقالهم، وكذا أساتذتها، لم يكن إلا علامة على اعتقال العلم والعدوان على استقلال الجامعات، وشهدنا حركة غير مسبوقة بمحاكمة أساتذة وفصلهم، وفصل طلاب واعتقالهم.
وغاية الأمر في ذلك، أن نؤكد أن استقلال الجامعات صار أمراً منعدماً، حتى إن بعضهم قد تحدث، ومن غير مبالغة، عن احتلال الجامعات. ذلك أن عملية استقلال الجامعة لا يكون بموقف جزئي يقتصر على ساحتها، بينما المجتمع والوطن رهن الاعتقال، فلا يقدم العسكر إلا مجتمعاً معسكراً، يأمر فيه فيطاع، وينهى فيسكت الجميع، صار مجتمع الجامعة ساحة اختبار لطغيان العسكر، فاغتال الجامعة، واعتقل المجتمع.
الذين انتُخبوا من القيادات الجامعية، ووفق العقد الانتخابي، مطالبون بتقديم كشف حساب للهيئة الناخبة التي تمثلت في مجتمع الجامعة بكل تنوعاته. ومع إلغاء انتخاب رؤساء الجامعات، عاد كل رئيس جامعة يقدم الولاء لسلطة الانقلاب، محولاً حُرمات الجامعات إلى ساحات أمنية، ينسق أمر جامعته مع وزارة الداخلية، أكثر مما ينسق مع وزارة التعليم العالي، وصارت القوات الأمنية الحاكم بأمر الانقلاب.
وصار من الطقوس اليومية أن يتم إطلاق الغاز المسيل للدموع وطلقات الخرطوش، ولا بأس ببعض رصاصات حية ضالة، تستقر في قلب أحد الطلاب أو صدره أو رأسه. وفي كل مرة تُنكر وتتنكر الداخلية أنها قتلت، وترضخ إدارات الجامعة لما تقول، فتروجه وتؤكده زوراً وبهتاناً. وحينما لم يكن هذا سلاحاً رادعاً لحركة طلابية صاعدة واعدة، فإنهم اتخذوا كل التدبيرات الأمنية التي تحول دون قيام هؤلاء باحتجاجاتهم، والتعبير عن غضبهم، والمطالبة بالقصاص لزملائهم.
هنا فقط تحول رئيس الجامعة إلى "أمنجي"، بكل المعايير، يهدد ويتوعد الطلاب بالفصل الكامل، والطرد من الجامعة، ومنع قبولهم في أي جامعة أخرى، رسمية أو خاصة، بعد فصلهم. وها هي المدن الجامعية صارت ساحات للكر والفر، حينما تستدعي إدارة الجامعات القوات الأمنية، كل يوم في المساء، للقيام بحملات تأديبية ضد طلابها.
مُنيت الجامعة بسياسات أمنية وقمعية. وحينما لم تتوقف الاحتجاجات، تتابعت الإجازات، وقُدمت الامتحانات، وتوقفت الدراسة إلا قليلا من الفترات، واقتصرت الدراسة الحقيقية على محاضرات قليلة. وبات هذا الأمر سياسة مقصودة ومرسومة، في محاولة لتفادي الاحتجاجات ووأد المظاهرات.
وها هو العام الدراسي لم يبدأ بعد، في سياق تأجيلات تصدر من هنا وهناك، واستبقته حكومة إبراهيم محلب الأمنية بترسيخ سياستين: التهديد لأعضاء هيئة التدريس بالفصل المباشر عن طريق رئيس الجامعة، من دون تحويل لمجالس تأديب أو تحقيق، فجعلت رئيس الجامعة ممثلاً للرئيس المنقلب في انقلابه على أعراف الجامعة، والتعامل معها والاستهانة بأساتذتها وطلابها، على حد سواء. كيف وصل الحال إلى هذا الأمر الذي يهدد فيه الأستاذ بالفصل، إذا ما عبر عن رأيه، أو أقدم على إبراز احتجاجه؟ والسياسة الثانية اقترنت بسياسات تخويف الطلاب، بإشاعة روح التجسس بإيجاد طابور خامس طلابى انقلابي من داخلهم، ما يسمى "الطلبة الوطنيين"، يتجسسون على زملائهم، ويبلغون سلطات الانقلاب بأمرهم، في إطارٍ يفرغ الحياة الجامعية من قيمها، وكل ما يتعلق بها من حركة الطلاب والشباب، لصياغة مستقبل الوطن، والتعبير عن غضبهم، تواصلاً مع هموم المجتمع ومطالبه.
ثم يأتي، بعد ذلك، الذين دشنوا في دستورهم الانقلابي الذي لا نعترف به، ولا يلتزم الانقلابيون أنفسهم به، والذي تضمن إشارات واضحة إلى استقلال الجامعات والحريات الأكاديمية، فإذا بالأمر يُترجم إلى تحويل الجامعة إلى ثكنة عسكرية، أي استقلال لجامعات يمكن أن نتحدث عنه؟ وأي جامعات يمكن أن تنهض في ظل هذا المناخ الخانق الذي يزهق نسائم الحرية وأفعال الاحتجاج؟ المهم فقط عند هؤلاء أن يستمر الانقلاب، ويستمر المنقلب على كرسيه، فيمسخ رؤساء الجامعات، ويجعلهم أدوات في يد زمرة الانقلابيين، يبطشون ما شاؤوا، ولا يهتمون إلا بالشأن الأمني، وليذهب التعليم إلى الجحيم.
هذا حال الجامعة المصرية، حينما يغتال فيها المعنى، وينتهك فيها المبنى، وتدنس فيها الحرم، ويعتقل فيها الطلاب، ويُفصل فيها الأساتذة، وتُحتل ساحاتها بقوات شرطية. فقط "تحيا الجامعات"، حينما تكون مستقلة تمارس كل صنوف حريتها، وتلتحم بقضايا المجتمع، وتصوغ مستقبل وطن. أم أن الانقلاب، وكما اغتال الآلاف وقتلهم، سيغتال الجامعات، مبنى ومعنى ومغزى ووظيفة حضارية.
والحال هذه، تصرخ الجامعات "وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت"؟، الانقلاب أًصل الخراب.