التكنولوجيا والإصلاح
يمنح التطور التكنولوجي لحظة للإصلاحيين، يجب توظيفها، كيف نوظف التكنولوجيا المتاحة اليوم لأجل الإصلاح؟ أعني بالإصلاحيين الأفراد والجماعات والمؤسسات في الدولة والمجتمع والأسواق، والذين تشغلهم مسائل التقدم وتحسين الحياة لأنفسهم ومجتمعاتهم في الحريات والعدل والكرامة والتعليم والصحة والثقافة والفنون والتماسك الاجتماعي وتطوير الموارد والعدالة والكفاءة في إدارتها وتوزيعها، والعدالة الاجتماعية، أو شبكة من العمليات والأفراد قد يعملون معاً أو مستقلين عن بعضهم، وقد يختلفون سياسياً أو يتفقون، ولكن المقياس في المحصلة هو التقدم في مؤشراتٍ، أصبحت واضحة وقابلة للقياس، ولكني أتوجه، بحكم موقعي وتجربتي، إلى الأفراد والجماعات والمؤسسات التي تعمل مستقلة عن الحكومة، وكثير منها في موقع المعارضة، وأعني بالمعارضة عدم المشاركة في الحكومات في اللحظة القائمة، والحكومة مؤسسة مجلس الوزراء والسلطات المرتبطة بها، وليست الدولة، ولا النخبة الحاكمة والمهيمنة بشكل عام، هل هذا توضيح ضروري؟ يبدو لي أنه كذلك، وإن كنت أخشى أنه لن يكون مفيداً، ذلك أنه تشكّل للمصطلحات معان مهيمنة وشائعة، ليست هي بالضرورة التي تقصدها،.. من حقك، بالطبع، أن تكون مفهوماً كما أنت، ومن أفضل قواعد الفهم المشترك وأهمها أن يكون للمفاهيم معنى مشترك، لنكون متأكدين من أننا نتحدث عن شيء واحد، نختلف أو نتفق حوله،.. وهكذا ستظل مثل هذه المقدمة لازمةً، أو تقليداً ضرورياً مثل المقدمة الطللية في الشعر العربي.
وليس الحديث عن العلاقة بين التكنولوجيا والتحولات الاقتصادية والاجتماعية جديداً، فقد شغلت به بحوث وكتابات وتخصصات علمية، ولكنك، في حاجة دائمة في الجدل العربي، أن تبذل جهداً طويلاً في بناء سؤال مشترك، لأجل البحث عن التوظيف الإصلاحي والاجتماعي للتكنولوجيا، وستظل في مواجهة مقولة أن لا علاقة للتكنولوجيا بالصراع السياسي والاجتماعي (الصراع بما هو تنافس وتدافع وليس العنف والقتال) أو تمضي وقتاً أطول في أنك لا تقصد إدخال التكنولوجيا في العمل والحياة، وأنك لا تدعو إلى الأتمتة والحوسبة، ولا تتحدث عن مزاياها والتدريب عليها!
كيف تساعد التكنولوجيا في التأثير على السياسة العامة، وتدفع بها باتجاه الإصلاح؟ كيف تساعد في تغيير علاقات القوة والإنتاج في المجتمع والدولة، ومن ثم كيف تنشئ قيادات اجتماعية واقتصادية وطبقات ومصالح جديدة؟ ثم كيف تنظم هذه الطبقة الجديدة مصالحها وأدواتها في التأثير والتغيير؟
وثمّة حاجة، هنا، مرة أخرى، للاستدراك والتوضيح أن النخب الملهمة من الشعراء والكتاب والدعاة والنشطاء، على الرغم من نبل عملهم وضرورته، لا يصنعون الإصلاح، هم يمثلون شرطاً ضرورياً له، لكنه شرط ليس كافياً، ويجب ألا يزيد الدور الإلهامي النبيل المجرد من المصالح والدوافع أكثر من حجمه في الدعوة والتأثير والتحريك نحو الإصلاح، لكن الكتلة الكبرى والحرجة في الإصلاح مردّها إلى طبقات متحالفة، تجد مصلحتها ومكاسبها في العدالة والحرية والديمقراطية وتحسين الحياة والتنافس وتطوير الخدمات الأساسية التعليمية والصحية والاجتماعية وأنظمة عمل وتشريع عادلة، ومن دون هذا التحالف المصلحي لن يكون إصلاح، ويتحول ملهموه إلى طرائد تتسلى النخب الحاكمة والمهيمنة في اصطيادها ومطاردتها واستدراجها وتضليلها.
غياب هذا الوعي والإدراك للعمل الإصلاحي يصيبه في مقتل، ويمضي به إلى متاهة مفزعة للإصلاحيين ومسلية للنخب، وقد يتحول إلى لعبة فجّة، عندما تمضي الطبقات المفترض أنها تقود الإصلاح في تحالف مع النخب المهيمنة، ثم تمارس النضال والمعارضة، على سبيل التسلية أو البلاهة. وما حاجة المعارضة إلى رجال أعمال يحصلون على العقود والعطاءات، عن طريق الرشوة والفساد، ثم يشاركون مع المعارضة، في الوقت نفسه، في الدعوة والتجمع والتظاهر والعمل؟ وما حاجة الإصلاح إلى مهنيين من مهندسين وأطباء ومحامين وأساتذة، يمثلون العمود الفقري للفساد وعدم المساواة، ويشغلون أوقات فراغهم في المهرجانات والاحتجاحات والتجمعات السياسية والشعبية المعارضة والمطالبة بالإصلاح؟
وهنا، يبدو السؤال وجيهاً وضرورياً وأكثر وضوحاً، كيف ينشئ الإصلاحيون بالتكنولوجيا الجديدة فرصاً وموارد وأسواقاً وأعمالاً جديدة، تنشئ موارد مستقلة لهم، ولقواعدهم الاجتماعية؟ هم بذلك فقط ينشئون علاقات قوة وتأثير جديدة وبديلة، تحرك الأسواق والمجتمعات، بعيداً عن الاحتكار والامتيازات التي ترفل فيها النخبة المهيمنة، ويجبرونها على المشاركة في الإصلاح والتنافس العادل، أو يخرجونها من التأثير. يضعونها في مواجهة الانقراض والفناء. وببساطة، وعلى نحو عملي، يجعلون قواعد الدخول إلى النخبة (النخب تعني قيادة المؤسسات والأعمال والقطاعات) والخروج منها على قاعدة "البقاء للأصلح"، وفي هذه القاعدة يكون الإصلاح!
السؤال، إذن، ببساطة، ومرة أخرى، كيف تنشئ المجتمعات والطبقات موارد وأعمالاً جديدة، تحررها من هيمنة النخب والاستبداد والاحتكار والامتيازات والإذعان والوصاية؟ فبغير الخروج من هذه الدوامة اللعينة، لن تستفيد المجتمعات من الانتخابات والديمقراطية والحريات!