تفاصيل سودانية
لم يكن الرئيس السوداني، عمر البشير، مضطراً لأن يُطنب، في تصريحاتٍ سابقةٍ، عن عزمه عدم الترشح في انتخابات الرئاسة في بلاده العام المقبل، وقد قال، في إحداها، إن "ثلاثة وعشرين عاماً تكفي"، وفي أخرى إن "ظروف السودان الصعبة تستدعي ضخَّ دماء جديدة". لم يكن أحدٌ ليعتب عليه، لو لم يُفرط في مثل هذه المأثورات، لأن الإعلان في الخرطوم، قبل أيام، عن عزمه الترشح، سيضطرنا إلى استدعاء جذاذات تلك التصريحات الطريفة، والتي تذكّرنا بمزحة علي عبد الله صالح، لمّا حلف بأَغلظ الأيمان في صيف 2006 أن اليمن في حاجة إلى دماءٍ جديدة "تقود المركب"، بتعبيره آنئذ، ثم لحس كلامه في الطقس الانتخابي التالي، وجدد رئاسته التي انتهت بالكيفية المعلومة. وقلة الظرافة باديةٌ في قول محبين للبشير إن حزبه، المؤتمر الوطني، هو الذي يقرّر ترشح الرجل أو عدمه، وإنه رأى في ولاية مضافة للرئيس مصلحة عليا للسودان. ولا نعرف ما إذا طرأ على بال فخامته أن حسني مبارك توهّم أنه يرضي المصريين إبّان غضبة يناير بوعده لهم أنه لا "ينتوي" الترشح للرئاسة مجدداً، كما زميله زين العابدين بن علي، لمّا "فهم" التونسيين، عشية هروبه، فوعدهم بأنه لن يترشح مرة أخرى لرئاستهم. تُرى، هل سنرى مشهداً سودانياً من هذا القبيل؟
حدث أن الحكم في الخرطوم أعلن، قبل 12 عاماً، عن إغلاق سجن كوبر، ودشّن الرئيس تحطيم جزء منه، وكان معه معمّر القذافي، غير أن السجن ما زال مضيافاً، ويقوم بوظيفته بالكفاءة نفسها. وليس (عدول؟) عمر البشير ذاك ما ذكّر بواقعة كوبر تلك، بل الملحوظ من جفاف السياسة في السودان، وعدم قدرة الناظر في المشهد العام هناك على أن يلحظ وجهة واضحة، أو مساراً ظاهراً، لتوجه محدد في هذا الشأن أو ذاك. وقصة الحوار الوطني واحدة من متاهات جديدة في هذا البلد. أعلن البشير عنه، ووافق معارضون عليه، كان منهم الصادق المهدي الذي وجد نفسه في اليوم التالي سجيناً، وبعد خروجه، راح إلى حوار في باريس مع قوى أخرى. ولم نعد في مزاج يستطيب ملاحقة أخبار ذلك الحوار الوطني وجديد الأخذ والرد بشأنه، طالما أن حدوتة ترشح الرئيس للرئاسة تأخذنا إلى مزاج آخر. وطالما أن أنباء وأوضاعاً أخرى لا تبعث على أي اطمئنان على السودان، نجّى الله أهله ومتّعهم بالدعة والفرج.
هذا التدهور الاقتصادي المضطرد، وتدني سعر الجنيه، وارتفاع البطالة، والاضطرابات المتنقلة والمرتجفة، والقتال في جنوب كردفان والنيل الأزرق، والاهتراء السياسي الواسع، جرّاء تذرّر المعارضة وانكشاف بؤسها أمام السودانيين في غير شأن ومسألة وموضوع، وكذا التشوش الحادث في قضية دارفور، والفوز الكاسح الذي سيرفل به الرئيس عمر البشير في موسم انتخابات 2015. كل هذه المعطيات، وأخرى غيرها، تنبئ بغير الذي نحبّ للسودان، البلد الذي اختبر تمارين ديمقراطية كانت واعدة، وأَدمن انتكاسات معلومة، ووفّر حالة مثلى في التدليل على فشلٍ مريع للنخبة العربية، الحاكمة والمثقفة والمعارضة.
نهض خطاب نظام الإنقاذ، كما يستحسن زملاء سودانيون تسمية عهد البشير، على "مشروع إسلامي"، كان طموحاً، قبل أن يرتدّ إلى مواضع خيباته التي كانت من مظاهرها إقامات منظّره، والحاكم الأبرز في الخرطوم في سنواتٍ أولى، الشيخ حسن الترابي، في السجون. ثم صارت الحروب إياها في دارفور وشرق السودان، وانفصل الجنوب، واستجدّت وطرأت دساتير وقوانين. وفي الأثناء، طوال نحو ربع قرن مضى، لم يصادف السودانيون ما ينهض بهم، وبأحوالهم، لا سياسياً ولا معيشياً. وهذه الحصيلة "تشرعن"، الآن، أن يلحس عمر البشير كلامه عن تلك الدماء الجديدة التي تتطلبها ظروف السودان الصعبة، وعلينا أَن نتفرّج، وإنْ بأسىً واجب.