"الإنترنت" والفرص الجديدة للتغيير
ما الذي أًنشأته شبكة الإنترنت من قيم وثقافات وفرص جديدة؟ ماذا غيرت/ تغير في تشكلات الطبقة الوسطى، وسعيها الدائم إلى الإصلاح؟ ثمة مساحات واسعة للتأمل والملاحظة.
يمكن وصف مرحلة اقتصاد المعرفة، تقنياً، بأنها سلسلة من الحوسبة والتشبيك والتصغير والأنسنة، فالحوسبة، بما هي محاكاة للإنسان وترميز رقمي للنصوص والصوت والصورة والمعارف والخبرات والمهارات، أنشأت عالماً جديداً من الموارد والفرص والمهن والأعمال، وغيرت الحالة السابقة من القوى والعلاقات والمؤسسات والقيادات، إضافة إلى المهن والأعمال، واتاحت المجال واسعاً للتأثير والتعليم والتدريب والإحاطة الواسعة لفئة واسعة من المجتمعات والطبقات، لم يكن بمقدورها ذلك، أو كانت تحتاج نفقات وأوقاتاً طائلة.
وفي التشبيك وثورة الاتصالات، أمكن إتاحة المعرفة والمحتوى الرقمي على شبكات الإنترنت والاتصالات؛ ما أتاح المجال بلا حدود لجميع الناس في الاطلاع والتواصل والإحاطة المعرفية والتدريب والتعليم والتعلم والتأثير والتجمع وتبادل المعلومات والخبرات والتسويق والبيع والشراء... على نحو مدهش، بتكاليف قليلة وبمهارات ممكنة لجميع الناس، لدرجة أن العالم القائم اليوم يمكن وصفه ببساطة "access" الوصول إلى الشبكة، فبمجرد الوصول إلى الشبكة يصبح الأفراد والشركات والمجتمعات والجماعات أعضاء متساوين (تقريباً) في التأثير والمشاركة.
وفي التصغير، أمكن تقليل النفقات والطاقة التي يحتاجها التشغيل ونقل الأجهزة المتقدمة إلى أي مكان في العالم، ثم في تصغيرها إلى درجات متناهية في التصغير "النانو تكنولوجي"، صارت تقنيات المعرفة والحواسيب متاحةً لجميع الفئات العمرية والاقتصادية، وبمزيد من التصغير أمكن أداء مجموعات واسعة من التطبيقات والأعمال والإنجازات في المعرفة والطب والصيانة، كانت تبدو متعذرة، أو مكلفة جدا.
وبأنسنة التقنية، أَي بمحاكاتها الإنسان، وبتصميمها وبرمجتها على النحو الذي يتيح لكل إنسان تقريباً، وبمهارات وخبرات عادية وعامة، من دون حاجة لوساطة مختصين، أو مساعدتهم، أمكن لكل إنسان تقريباً أن يعمل بنفسه، ولنفسه، في الحياة والعمل والخدمات والتعليم والعلاج والتواصل والتسويق.. وأن يكون ما يحب، وما يريد أن يكون عليه، وأن يحظى بمساعدة وخدمات كبيرة، ومتسعة، ومتعددة، يقدمها له الحاسوب، أو الشبكة، كانت تحتاج من قبل إلى مكاتب ومساعدين، ونفقات لا تقدر عليها الا فئة قليلة من الناس وطبقات المجتمع والسوق والحكم.
في هذا المسار التقني، وحوله، يمكن ملاحظة منظومات واسعة من التحولات الكبرى والجذرية في العلاقات والموارد والتأثير والفئات الصاعدة والمنسحبة والمنقرضة،.. ويمكن وصف هذه التحولات وإجمالها بمجموعة من المنظومات، مثل: من الصناعة إلى المعرفة، ومن الهرمية إلى الشبكية، ومن الحتمية إلى الاختيار، ومن التلقي إلى المشاركة.
في التحول من الصناعة إلى المعرفة، صعدت الفئات العاملة في المجالين، الإبداعي والمعرفي، مثل التصميم والبرمجة والإعلام والنشر والبحث، وأصبح الخيال المورد الرئيسي الذي يقود التقدم والتحولات. وفي التحول من الهرمية إلى الشبكية، تغير دور الدولة والنخب وعلاقاتها بالأفراد والمجتمعات. اليوم ثمة مساواة مدهشة، في الحصول على المعلومات وتبادلها، وفي التأثير والتعليم والفرص، وفي التحول من الحتمية إلى الاختيار، لم يعد الفرد والمجتمع ملزمين بما تقدمه لهم جهات إعلامية، أو معرفية، أو سياسية محددة، لكنهم يغرفون من مصادر في جميع أنحاء العالم بلا حدود، وهم، أيضاً، لا يتلقون فقط المعرفة والمعلومة والخبر، لكنهم يشاركون في تقديمها وعرضها ونشرها.
في سلسلة كتبه الرائعة "عصر الثورة" و "عصر رأس المال" و "عصر الإمبراطورية" و "عصر التطرفات"، يجمل هوبز باوم وصف الثورة الصناعية بأنها كانت اجتماع التاريخ والعلم والعناية الإلهية، لتضع العالم لقمة سائغة بين يدي الطبقة الوسطى. وأدركت أنظمة الحكم المطلقة في أوروبا أنّ التاريخ يقف ضدها، فتداعت بسهولة عندما هبّت الثورة، وبدأ، للمرة الأولى، سكان المدن والحضر يتجاوزون سكان الريف؛ لتنشأ المدن العملاقة، وتنمو مداخيل الطبقة الوسطى من سكان المدن ومؤسسيها وقادتها الجدد.
كانت الثورة الفرنسية (1789) تعبيراً عن أثر الصناعة والآلة. وثورة المحرك البخاري أنشأت المدن والأحزاب والطبقات الوسطى، والرواية والموسيقى والفنون، لكن الربيع العربي كان تعبيراً عن «الشبكية»، المجتمعات والموارد والثقافة التي تتشكل حول الشبكة.
و يمكن فهم الربيع العربي باعتباره مجتمعاتٍ وطبقاتٍ تتحرك وتؤثر، بوصفها مجتمعات، أكثر مما هو حراك لأحزاب واتجاهات سياسية واجتماعية، أو هو تعبير عن تحولاتٍ ناشئةٍ بفعل تقنيات المعلوماتية والمعرفة، والتي أنشأت متواليةً من التحولات والتشكلات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة والمختلفة.
من رجل الدولة إلى رجل الأعمال إلى رجل الشارع، هذه، باختصار قصة التحولات السياسية والاجتماعية، منذ قيام الدولة الحديثة، وإذ كانت الدولة مفتاح التنمية والنهضة والصراع، ثم هبط القطاع الخاص حلّاً لفشل الدولة، فإن المجتمعات تنهض، اليوم، لتكون شريكاً مكافئاً للقطاعين، العام والخاص، في الموارد والتأثير.
وهكذا، فإن الربيع العربي هو، ببساطة، الفرصة الناشئة عن علاقة الإنسان بالحاسوب والانترنت! وكما وصف لينين الثورة الشيوعية بأنها الفكرة، مضافا إليها الكهرباء، فإنه يمكن الربيع العربي بأنه الطبقة الوسطى مضافاً إليها الإنترنت!