ديمقراطيات هرمة .. ومشروطة
ولعت النخب العربية المتنورة بالديمقراطية، وتُيّمت بها، حتى أصبحت بمثابة عقيدة لها. دفع بعضهم دمه، وأَحياناً عمره، ثمناً لها. وكانت أجيال ما بعد الدولة الوطنية، والتي لم تدرك الاستعمار، ولم تخض ضده معارك التحرر الوطني، تعتبر الديمقراطية أُم معاركها، فخاضتها، حسب ما تمثلته من مبادئها، وما توفر لها من أدوات، وما سمح به السياق العام. لكن، تبين لتلك الأجيال لاحقاً، لمّا أدركت تلك الديمقراطية أنها كانت في أسوأ حالاتها.
يشعر ناشطون عديدون في الثورات العربية، حتى تلك التي تفادت الانقلابات أو العسكرة أو تعميم العنف، أَن المدرك من الديمقراطية لم يكن بحجم ذلك الشوق. هناك شيء من خيبة الانتظار. هل يعود الأمر إلى ما تتعرض إليه الديمقراطية ذاتها من مراجعاتٍ عميقةٍ، تقودها تياراتٌ جذريةٌ في الفلسفية السياسية المعاصرة، بشكل خاص، أم إلى السياقات التي أصبحت فيها الديمقراطية في متناول بعضنا، ليمارس منها الحد الأدنى، كالانتخابات والتداول السلمي على السلطة والتشريعات الضامنة للحريات العامة وحقوق الإنسان، الأساسية منها خصوصاً؟
"لقد هرمنا من أَجل هذه اللحظة التاريخية" ..هكذا استقبل الستيني التونسي، أحمد الحفناوي، ذات يوم، نسائم الديمقراطية، في لحظةٍ لم يتوقعها أحد. لكن، لم يدر في خلده أَن الديمقراطية التي أَدركناها بدورها هرمت، وأَصبحت بحاجةٍ إلى ما يشدُّ عضلاتها، ويرمّم ما اعوجَّ وفسد من قسماتها وقوامها. تحتاج إِلى إعادة صياغةٍ جذرية، فلقد بدأت شعوب الديمقراطيات العريقة تضيق بها، وتبتكر لها أَشكالاً جديدةً، بدءاً من الديمقراطية الإلكترونية إلى الديمقراطية "وفق الطلب" إلخ. لسنا بصدد تعداد القلق من الديمقراطية، أو عوارض أمراضٍ خطيرة قد تصيبها، في سنوات قليلة قادمة، من قبيل ما يصلب شرايينها، ويصيب مفاصلها، ويضلل حواسها. ولكن، نتحدث عن خيبات ما وصل إلينا منها.
كانت الديمقراطية، وإلى الثمانينيات من القرن الماضي، قائمةً على مسلمة، أَن الإرادة الشعبية حرة، وقادرةٌ على أن تعبّر عن نفسها بنفسها في الانتخابات. وبقطع النظر عما يهدّدها، حين تختزل، فترتدّ إلى مجرد أدوات، في بلدان الديمقراطيات العتيقة، أو مجتمعات العالم الثالث، فإن التلاعب الإعلامي بالمشاعر والأحاسيس، وحتى العقول، بدا أكثر قدرة على سرقة قناعات الناس وتوجهاتهم، وهي ركائز الديمقراطية. فصناعة الرؤى والتوجهات السياسية، في سبر الآراء وغيرها، أبانت أن في مقدور الحيل الناعمة أن تشوه الديمقراطية، بل وأن تحرفها.
كانت الديمقراطية قائمةً على حسن الظن، وعقدت نياتٌ طيبةٌ كثيرةٌ على قدرة الشعوب على الحفاظ على إرادتها، والتعبير عنها وبواسطتها. كان الإعلام، آنذاك، محدود القدرة على التلاعب بعقول الجماهير ومشاعرها، ولم تكن أَجهزة الدولة، وأذرعها في التنشئة وغسل الأدمغة، قد بلغتا أَشكالاً مخيفة. يقف الناس، حالياً، أمام فاجعةٍ لا مرد لها، هي أن المال والإعلام في وسعهما أَن يبتكرا وعياً يفرز، في النهاية، ديمقراطياتٍ مزيفة.
نشأت الديمقراطية في زمن غير بعيد، كانت الإرادة الشعبية فيه صلبة، وكان ذلك في انسجام تام مع النموذج الفوردي (نسبة إلى فورد/ المهندس الأميركي وصاحب سيارة فورد). لكن، تجاوزت التقنيات الحديثة في الفيزياء، وغيرها من العلوم التطبيقية ونماذج التسيير، هذا النموذج، لتبلغ البشرية نموذجاً لزجاً، و"مائعا"، على ما ذهب إليه عالم الاجتماع البريطاني المعاصر، زيجموت بومان، أنه نموذج لإنسانيةٍ متقلبةٍ ومزاجية، تنزلق فيه الإرادةُ جاريةً مجرى السوائل، وتلك من علامات "الحداثة السائلة".
الأخطر من ذلك كله، فيما يهم ديمقراطيتنا الهرمة التي أدركناها، أننا، وقد رضينا بها، على أمل أن نجددها، أو نطورها، تبين لنا أن بعض القوى لا ترتضى أن تكون الديمق
راطية تعبيراً عن الإرادة الشعبية الحرة. وينشط، في دول الربيع العربي حالياً، كما نشطت في دول أوروبا الشرقية، خبراء ومنظمات دولية مختصة في الهندسة الديمقراطية، يقدّمون ديمقراطياتٍ على المقاس، يجرّدونها من عنفوانها، فتأتي ذلولاً.
يقدم لنا آخرون "ديمقراطيات بشروط"، على غرار القروض والهبات، من خلال تدخل ضمنيٍّ أحياناً، وسافرٍ، بل وفجٍّ أحياناً أخرى، حين يرسم لنا هؤلاء حدود اللعبة الديمقراطية، ويُملون علينا قائمة اللاعبين، بمن فيهم البدلاء، وغير ذلك من التفاصيل المحلية.
حين يتبين للقوى الخارجية أَن الديمقراطية ستساوي تماماً الإرادة الشعبية، فإنها تتنكر لأدنى مسلماتها وأدواتها، بما فيه صندوق الاقتراع وتبعاته السياسية. بل تعمد هذه القوى إلى معاقبة المتمسكين بها.
أشكال العقاب، على ما يمكن للإرادة الشعبية وصندوق الاقتراع أن يحملانه، وهما من مشتقات هذه الديمقراطية، إذا لم تتوافق مع إرادة تلك القوى، هو "تكريه" الناس فيها، ومحاسبتهم حساباً عسيراً.
مع ذلك، يضعنا الربيع العربي أمام فرصة نادرةٍ ومضاعفة، في الوقت نفسه. إنها تجديد الديمقراطية، فكراً وممارسة، وتحصينها من أشكال الرهن والخطف. وبذلك، لن تكون تعبيراً عن الإرادة الشعبية الحرة فحسب، بل والسيادة الوطنية أيضا. لذلك كله، لن نكره الديمقراطية، على عللها تلك، بل سنظل مشدودين إليها دوماً.