04 نوفمبر 2024
صناعة الرأي العام في تونس قبل الانتخابات
لا تحتفظ ذاكرة التونسيين قبل الثورة بنشاط يذكر لأسبار (قياس) اتجاهات الرأي العام، ما عدا الاستشارة الوطنية للشباب التي نخرها التوظيف السياسي والتحايل العلمي على صياغتها ونتائجها، حتى إذا قامت الثورة، فتحت الباب على مصراعيه لشتى أنواع سبر الآراء. أنشئت مئات المكاتب الوطنية والدولية ضمن شبكات من العلاقات المركبة والمعقدة بين ثلاث دوائر مفصلية: أصحاب رؤوس المال ومالكي المؤسسات الإعلامية والقيادات السياسية، في غياب شبه كلي للمجتمع العلمي الذي يفترض أن يضع، إلى جانب التشريعات، أرضية علمية، وقاعدة أخلاقية للممارسة السبرية (عملية قياس الرأي العام).
بعد انتخابات 23 أكتوبر/تشرين أول 2011، دأبت بعض هذه المؤسسات في تونس على نشر نتائج سبر الآراء دورياً، فيما يشبع إيجاد تقاليد للحاجة وتوليد الانتظارات ضمن صيغة الإشهار التجاري، خصوصاً وأن أشهر مؤسسة حالية في هذا المجال كانت قبل الثورة مختصة في التسويق التجاري لمؤسساتٍ كانت في فلك العائلة الحاكمة.
جل ما تنشره هذه المؤسسة، وغيرها، من نتائج، تفيد بأن حزبين سيتصدران المشهد السياسي في تونس بعد الانتخابات المقبلة: أحدهما تولى الحكم وآخر يقدم نفسه بديلاً عنه، جمع دستوريين (من حزب التجمع الدستوري المحل، والحاكم سابقاً) ويساريين ونقابيين ومستقلين في خلطة سياسية غريبة. وتفيد الاستطلاعات نفسها بأن رئيس هذا الحزب يتقدم المترشحين المفترضين للرئاسة، وبفارق كبير على منافسيه. وبقطع النظر عن التسليم العلمي والأخلاقي بهذا، فإن النتيجة الحاصلة في مستوى التلقي خطيرة على جميع المستويات: تقسيم الأحزاب إلى كبيرة وأخرى صغيرة، والقيام بغربلة قبْلية للمترشحين وإنتاج رئيس قبل الأوان.
استناداً إلى ما سبق، لا يمكن أن نحصر سبر الآراء في وظيفة القياس، أو تقديم تشخيص للواقع السياسي، بل علينا أن نستحضر وظائف التوقع، والكشف عن النيات الانتخابية، وترتيب القوى السياسية والشخصيات المترشحة.
كان سبر الآراء يهدف إلى معرفة الآراء، وتوقع مختلف أنماط السلوك والمواقف والنيات، بما فيها النيات الانتخابية، ثم تعززت تلك الوظائف بأخرى جديدة. فمنذ عقود ثلاثة، تعددت أدوار استطلاعات الرأي، وأصبحت أخطر مما نتصور. إنها تصنع المترشحين أصلاً، وتجلب إليهم الأصوات وتوصلهم، إلى حد ما، إلى تلك المواقع. يعتبر بعضهم ذلك من انحرافات الديمقراطيات العريقة التي أبلاها المال والإعلام. والأكيد أن الخطر يتضاعف في ظل الانتقال الديمقراطي الذي مازال فيه الإعلام والمال مرتهنين إلى الدولة العميقة المتوثبة. ولافت للنظر أن القنوات والصحف التي ساندت الثورة في تونس، ورافقت، إلى حد كبير، سنوات النضال الديمقراطي الطويل، على قلتها، قد اختفت. وظلت بارونات البروباغندا (الدعاية) لنظام زين العابدين بن علي ثابتة، تناكف الثورة، وتحتضن رموز الثورة المضادة.
يعسر أن تنجو تلك الأسبار والاستطلاعات من الأدوتة (اعتبارها أداة توظف في أهداف غير معلنة)، والخضوع لنفوذ قوى ودوائر مالية وسياسية، في عملية إيجاد استهلاك مادة سياسية وإعلامية جديدة، فتتحول نتائج الأسبار إلى توجيهٍ ناعم للخيارات السياسية، في "تشريط" يدب في الجسم الاجتماعي، على شاكلة خدر مستحب.
لا يمكن تحت هذه الممارسات الإعلامية وآليات الإعادة إلا أن تخلق الأسبار غرابيل تفرز بها وتنتقي الأحزاب والقيادات، حيث ترتب الأسماء، وتضعها تحت الأضواء، أنها لا تشير إليها، بل تشهرها. وبهذا، ستضع عمليات سبر الآراء يدها الطويلة على الانتخابات المقبلة في تونس، وتطوعها بقدر ما يضخ المال والنفوذ ودوائر القرار من إمكانات في ساحة سياسية مفتوحة، حتى على أركان النظام السابق.
الفائزون في السباقات الانتخابية في البلدان الديمقراطية تفرزهم عوامل عديدة، منها: البرامج الانتخابية والنظام الانتخابي وطبيعة النخب السياسية وجسم الناخبين ووسائل الإعلام، ولكن، يتعاظم حالياً دور مكاتب الخبرة وسبر الآراء. وكم من مرة وجهت أصابع الاتهام إلى تلك المؤسسات التي سلبت الناخب إرادته. تساهم تلك الأسبار في تعديل قوانين العرض والطلب الانتخابي في سوقٍ، ترتفع فيه الأسهم وتتراجع بشكل متوتر. الميكانيزمات النفسية الواعية، أو الواعية التي تحرك الانتباه وتوجهه، من خلال عملية التسابق والتلاحق المشوقة التي تبدأ، ولمسافات طويلة، بين خيلٍ جامحة، تصيب الجميع بأشد أنواع الضغط خطورة. فعمليات سبر الآراء تطيل السباق الانتخابي، وتجعله ماراثوناً لا يتوقف أبداً. وما الحملة الانتخابية الرسمية إلا تصفيات نهائية، تكاد النتائج فيها تكون معلومة مسبقاً.
خلال تلك المسافات الطويلة من السباق، تمنح عمليات السبر إمكانية تعديل الصورة، فهي تدل على مواطن الخلل، لكنها من دون أن تشير إلى كيفية التدارك، تدفع الخاسرين مؤقتاً إلى البحث عن وصفات النجاح، من خلال الاستعانة بخبراء الانتخابات، وذلك ما يؤكد دور فاعلي السوق الانتخابي و"تضامنهم المهني" (مؤسسات سبر الآراء تحيل إلى خبراء التقنيات والتواصل الانتخابي، والعكس صحيح).
يقدم حزب نداء تونس نفسه، مثلاً، على لسان قياداته، أنه القوة الانتخابية الأولى في أفق الانتخابات المقبلة، وما كان ذلك متاحاً لولا نتائج سبر الآراء، كما أشرنا سابقاً. تمنح هذه المعطيات "حقائق سوسيولوجية"، وحجة علمية لمختلف الفاعلين السياسيين، لإقامة مختلف الألعاب السياسية: التحالف، الصد، الانصهار، وهي ألعاب تتشكل وفق لعب مرايا، تصوغها معطيات الأسبار.
فالصناعات السبرية التي تعاضد الصناعة الإعلامية، في صنع القيادات الحزبية، وقيادات الدولة غدت المحدد المهم في ذلك السباق الطويل المشوق.
لكل تلك الانحرافات، لم يخف عالم الاجتماع الفرنسي، بيار بورديو، تبرمه من عمليات سبر الآراء بشكل قاطع، معتبراً أنها تفرض فرضاً أولوياتها، فهي تصنع "رأيا عاماً" وديعاً، فتسحب منه أبعاده الصراعية المتوترة، وتقدمه على أساس خريطة ملساء ومصقولة.
آنذاك، لن يكون الرأي العام، كما تعكسه عمليات سبر الآراء، نصاً معبراً عن الإرادة الجماعية، ولا خريطة للتطلعات الجماعية، بل أداة لتجديد هندسات الضبط السياسي. ومكاتب وشركات سبر الآراء ستكون (مصانع) سرية للرأي العام في تونس، خصوصاً وأن الدولة العميقة ورموز النظام السابق أملوا قواعد جديدة للألعاب السياسية القادمة.
بعد انتخابات 23 أكتوبر/تشرين أول 2011، دأبت بعض هذه المؤسسات في تونس على نشر نتائج سبر الآراء دورياً، فيما يشبع إيجاد تقاليد للحاجة وتوليد الانتظارات ضمن صيغة الإشهار التجاري، خصوصاً وأن أشهر مؤسسة حالية في هذا المجال كانت قبل الثورة مختصة في التسويق التجاري لمؤسساتٍ كانت في فلك العائلة الحاكمة.
جل ما تنشره هذه المؤسسة، وغيرها، من نتائج، تفيد بأن حزبين سيتصدران المشهد السياسي في تونس بعد الانتخابات المقبلة: أحدهما تولى الحكم وآخر يقدم نفسه بديلاً عنه، جمع دستوريين (من حزب التجمع الدستوري المحل، والحاكم سابقاً) ويساريين ونقابيين ومستقلين في خلطة سياسية غريبة. وتفيد الاستطلاعات نفسها بأن رئيس هذا الحزب يتقدم المترشحين المفترضين للرئاسة، وبفارق كبير على منافسيه. وبقطع النظر عن التسليم العلمي والأخلاقي بهذا، فإن النتيجة الحاصلة في مستوى التلقي خطيرة على جميع المستويات: تقسيم الأحزاب إلى كبيرة وأخرى صغيرة، والقيام بغربلة قبْلية للمترشحين وإنتاج رئيس قبل الأوان.
استناداً إلى ما سبق، لا يمكن أن نحصر سبر الآراء في وظيفة القياس، أو تقديم تشخيص للواقع السياسي، بل علينا أن نستحضر وظائف التوقع، والكشف عن النيات الانتخابية، وترتيب القوى السياسية والشخصيات المترشحة.
كان سبر الآراء يهدف إلى معرفة الآراء، وتوقع مختلف أنماط السلوك والمواقف والنيات، بما فيها النيات الانتخابية، ثم تعززت تلك الوظائف بأخرى جديدة. فمنذ عقود ثلاثة، تعددت أدوار استطلاعات الرأي، وأصبحت أخطر مما نتصور. إنها تصنع المترشحين أصلاً، وتجلب إليهم الأصوات وتوصلهم، إلى حد ما، إلى تلك المواقع. يعتبر بعضهم ذلك من انحرافات الديمقراطيات العريقة التي أبلاها المال والإعلام. والأكيد أن الخطر يتضاعف في ظل الانتقال الديمقراطي الذي مازال فيه الإعلام والمال مرتهنين إلى الدولة العميقة المتوثبة. ولافت للنظر أن القنوات والصحف التي ساندت الثورة في تونس، ورافقت، إلى حد كبير، سنوات النضال الديمقراطي الطويل، على قلتها، قد اختفت. وظلت بارونات البروباغندا (الدعاية) لنظام زين العابدين بن علي ثابتة، تناكف الثورة، وتحتضن رموز الثورة المضادة.
يعسر أن تنجو تلك الأسبار والاستطلاعات من الأدوتة (اعتبارها أداة توظف في أهداف غير معلنة)، والخضوع لنفوذ قوى ودوائر مالية وسياسية، في عملية إيجاد استهلاك مادة سياسية وإعلامية جديدة، فتتحول نتائج الأسبار إلى توجيهٍ ناعم للخيارات السياسية، في "تشريط" يدب في الجسم الاجتماعي، على شاكلة خدر مستحب.
لا يمكن تحت هذه الممارسات الإعلامية وآليات الإعادة إلا أن تخلق الأسبار غرابيل تفرز بها وتنتقي الأحزاب والقيادات، حيث ترتب الأسماء، وتضعها تحت الأضواء، أنها لا تشير إليها، بل تشهرها. وبهذا، ستضع عمليات سبر الآراء يدها الطويلة على الانتخابات المقبلة في تونس، وتطوعها بقدر ما يضخ المال والنفوذ ودوائر القرار من إمكانات في ساحة سياسية مفتوحة، حتى على أركان النظام السابق.
الفائزون في السباقات الانتخابية في البلدان الديمقراطية تفرزهم عوامل عديدة، منها: البرامج الانتخابية والنظام الانتخابي وطبيعة النخب السياسية وجسم الناخبين ووسائل الإعلام، ولكن، يتعاظم حالياً دور مكاتب الخبرة وسبر الآراء. وكم من مرة وجهت أصابع الاتهام إلى تلك المؤسسات التي سلبت الناخب إرادته. تساهم تلك الأسبار في تعديل قوانين العرض والطلب الانتخابي في سوقٍ، ترتفع فيه الأسهم وتتراجع بشكل متوتر. الميكانيزمات النفسية الواعية، أو الواعية التي تحرك الانتباه وتوجهه، من خلال عملية التسابق والتلاحق المشوقة التي تبدأ، ولمسافات طويلة، بين خيلٍ جامحة، تصيب الجميع بأشد أنواع الضغط خطورة. فعمليات سبر الآراء تطيل السباق الانتخابي، وتجعله ماراثوناً لا يتوقف أبداً. وما الحملة الانتخابية الرسمية إلا تصفيات نهائية، تكاد النتائج فيها تكون معلومة مسبقاً.
خلال تلك المسافات الطويلة من السباق، تمنح عمليات السبر إمكانية تعديل الصورة، فهي تدل على مواطن الخلل، لكنها من دون أن تشير إلى كيفية التدارك، تدفع الخاسرين مؤقتاً إلى البحث عن وصفات النجاح، من خلال الاستعانة بخبراء الانتخابات، وذلك ما يؤكد دور فاعلي السوق الانتخابي و"تضامنهم المهني" (مؤسسات سبر الآراء تحيل إلى خبراء التقنيات والتواصل الانتخابي، والعكس صحيح).
يقدم حزب نداء تونس نفسه، مثلاً، على لسان قياداته، أنه القوة الانتخابية الأولى في أفق الانتخابات المقبلة، وما كان ذلك متاحاً لولا نتائج سبر الآراء، كما أشرنا سابقاً. تمنح هذه المعطيات "حقائق سوسيولوجية"، وحجة علمية لمختلف الفاعلين السياسيين، لإقامة مختلف الألعاب السياسية: التحالف، الصد، الانصهار، وهي ألعاب تتشكل وفق لعب مرايا، تصوغها معطيات الأسبار.
فالصناعات السبرية التي تعاضد الصناعة الإعلامية، في صنع القيادات الحزبية، وقيادات الدولة غدت المحدد المهم في ذلك السباق الطويل المشوق.
لكل تلك الانحرافات، لم يخف عالم الاجتماع الفرنسي، بيار بورديو، تبرمه من عمليات سبر الآراء بشكل قاطع، معتبراً أنها تفرض فرضاً أولوياتها، فهي تصنع "رأيا عاماً" وديعاً، فتسحب منه أبعاده الصراعية المتوترة، وتقدمه على أساس خريطة ملساء ومصقولة.
آنذاك، لن يكون الرأي العام، كما تعكسه عمليات سبر الآراء، نصاً معبراً عن الإرادة الجماعية، ولا خريطة للتطلعات الجماعية، بل أداة لتجديد هندسات الضبط السياسي. ومكاتب وشركات سبر الآراء ستكون (مصانع) سرية للرأي العام في تونس، خصوصاً وأن الدولة العميقة ورموز النظام السابق أملوا قواعد جديدة للألعاب السياسية القادمة.