06 نوفمبر 2024
العالم ليس عقلاً
لست بصدد مراجعة كتاب المفكر السعودي الراحل، عبدالله القصيمي، "العالم ليس عقلاً"، ولكن، أستعير عنوانه، للدلالة على ظواهر ماثلة في عالمنا العربي، تستدعي إعمال العقل، والنظر إليها بموضوعية وتجرّد، وتنحية الخوف من ردود الفعل المريضة التي تريد دائماً اغتيال العقل. من تلك الظواهر ما يخص شعائر عاشوراء التي يحييها أتباع المذهب الشيعي، في مثل هذه الأيام كل عام. وفي مذكرات توماس لييل، مساعد مدير الدائرة القضائية في الإدارة البريطانية التي حكمت العراق قبل الاستقلال، "المستور والمكشوف في بلاد ما بين النهرين"، فصل مثير عن هذه الشعائر التي عاشها واختبرها عن قرب، مسجلاً مفارقات ما تزال حاضرة.
توصل لييل إلى قناعة، أن ما يفعله المشاركون في شعائر عاشوراء من لطم وتطبير وضرب ظهورهم بالسلاسل لا يعكس تطرفاً مصطنعاً في الالتزام المذهبي، وإنما هو تعبير عن عفوية يمكن رصدها بسهولة، هي نتيجة إيمان وحماس مطلق، لو قدّر له أن يوجّه نحو قنوات صحية وصحيحة، لأحدث تغييراً جذرياً في البناء الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. ونقل عن مشارك في هذه الشعائر على درجة من الثقافة والمعرفة قوله، إن فعله هذا يوفر له فرصة نادرة لطلب الغفران عما ارتكبه في حياته من خطايا، وما تعرّض له من مواطن ضعف. ونقل عن المرجع الشيعي الأعلى آنذاك تأكيده عدم إمكانه السيطرة على الناس في أمور كهذه، أو كبح جماحهم، إذ "إن الإمساك بموجات البحر أسهل من التأثير على هؤلاء الذين يعتبرون شعائر اللطم والتطبير التزاماً مذهبياً خالصاً، والكف عنها عصياناً يستحق المساءلة".
يرى لييل في ذلك تنفيساً عن رغبة مكبوتة في التعبير عن مكنونات النفس، حيث أن ممارسي هذه الشعائر محكومون بنظام مذهبي عقيدي صارم، مملوء بالمحرّمات. لذلك، يجدون فرصتهم في عاشوراء لإطلاق العنان لأنفسهم بممارسة سلوكياتٍ، تبدو للمراقب الأجنبي خارجة عن المألوف، إلى درجة أن بعضها يثير السخرية. واكتشف لييل أن مراجع الشيعة، ذات النفوذ والتأثير، تقرّ أن اللطم والتطبير، والضرب بالسلاسل على الظهور، وإيذاء النفس، أمر محرم، أو على الأقل مكروه، لكنها لا تستطيع الإفصاح عن ذلك للجمهور، لأن ذلك يجعلها تخسر ولاء أتباعها، ما يهدد منافع وامتيازات تحصل عليها، منها الاستحواذ على ما يسميه لييل "خزنة المال والذهب" التي تستقر فيها الحصة الأكبر من الأموال التي يدفعها أبناء الطائفة عن رضا وقناعة، وتعتبر، في أنظار عديدين، المورد الأساس لثروة "المرجعية العليا" التي لا تخضع للحساب.
وتزخر وسائل التواصل الاجتماعي بتقارير موثقة وصور عن عمليات بيع وشراء، واستثمارات في أوروبا، يقوم بها أفراد على صلة أسرية قريبة بمراجع عديدة معتبرة.
ويسجل لييل مفارقة بين ما يؤمن به وما يفعله عموم جمهور الطائفة، وأداء المراجع ورجال الطبقة العليا التي تمتلك السلطة والنفوذ، فما يؤديه الأخيرون ليس سوى نوع من التقرّب لأتباعهم، والتعبير عن مشاعر زائفة وغير صادقة، وغالباً ما يكون ذلك من موجبات السلطة، والحفاظ على النفوذ، مشيراً إلى أنهم اعتادوا الخروج في مواكب خاصة محفوفة بالهيبة، والمشاركة، أحياناً، في اللطم لإظهار التزامهم المصطنع أمام مريديهم.
ما سجله لييل عن هذه المفارقة يمكن رصده في أيامنا هذه، إذ نقلت لنا الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي مشاهد حضور مرجعيات دينية، ورجال الطبقة السياسية الحاكمة، أماكن التجمعات، ومشاركتهم في المسيرات، وإصرار بعضهم على إطعام المشاركين بأنفسهم، أو حتى إعدادهم الطبخ، إضافة الى أدائهم حركات اللطم على صدورهم، واستدرار دموع الحزن، وممارسة التطبير على نحوٍ يظهر الالتزام بالشعائر المذهبية، والإيحاء بالتقوى والورع.
ما سجله لييل من مفارقات مازال قائماً منذ قرون، إلا أن أحداً لا يستطيع أن يفتح فمه بمناقشته، لئلا يناله غضب المتطرفين ومراجعهم، أو يتعرّض لتهديد بالقتل، ويرى بعضهم أن نقد هذه الظواهر يدخل في دائرة المحرّمات التي يجب عدم الاقتراب منها، فيما يُدرك العقلاء أن الذين يخافون من النقد الذي يوجّه إليهم إنما يخافون على إيمانهم، و"الذين يخافون على إيمانهم، كما يقول القصيمي، قوم لا يثقون بأيمانهم".
توصل لييل إلى قناعة، أن ما يفعله المشاركون في شعائر عاشوراء من لطم وتطبير وضرب ظهورهم بالسلاسل لا يعكس تطرفاً مصطنعاً في الالتزام المذهبي، وإنما هو تعبير عن عفوية يمكن رصدها بسهولة، هي نتيجة إيمان وحماس مطلق، لو قدّر له أن يوجّه نحو قنوات صحية وصحيحة، لأحدث تغييراً جذرياً في البناء الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. ونقل عن مشارك في هذه الشعائر على درجة من الثقافة والمعرفة قوله، إن فعله هذا يوفر له فرصة نادرة لطلب الغفران عما ارتكبه في حياته من خطايا، وما تعرّض له من مواطن ضعف. ونقل عن المرجع الشيعي الأعلى آنذاك تأكيده عدم إمكانه السيطرة على الناس في أمور كهذه، أو كبح جماحهم، إذ "إن الإمساك بموجات البحر أسهل من التأثير على هؤلاء الذين يعتبرون شعائر اللطم والتطبير التزاماً مذهبياً خالصاً، والكف عنها عصياناً يستحق المساءلة".
يرى لييل في ذلك تنفيساً عن رغبة مكبوتة في التعبير عن مكنونات النفس، حيث أن ممارسي هذه الشعائر محكومون بنظام مذهبي عقيدي صارم، مملوء بالمحرّمات. لذلك، يجدون فرصتهم في عاشوراء لإطلاق العنان لأنفسهم بممارسة سلوكياتٍ، تبدو للمراقب الأجنبي خارجة عن المألوف، إلى درجة أن بعضها يثير السخرية. واكتشف لييل أن مراجع الشيعة، ذات النفوذ والتأثير، تقرّ أن اللطم والتطبير، والضرب بالسلاسل على الظهور، وإيذاء النفس، أمر محرم، أو على الأقل مكروه، لكنها لا تستطيع الإفصاح عن ذلك للجمهور، لأن ذلك يجعلها تخسر ولاء أتباعها، ما يهدد منافع وامتيازات تحصل عليها، منها الاستحواذ على ما يسميه لييل "خزنة المال والذهب" التي تستقر فيها الحصة الأكبر من الأموال التي يدفعها أبناء الطائفة عن رضا وقناعة، وتعتبر، في أنظار عديدين، المورد الأساس لثروة "المرجعية العليا" التي لا تخضع للحساب.
وتزخر وسائل التواصل الاجتماعي بتقارير موثقة وصور عن عمليات بيع وشراء، واستثمارات في أوروبا، يقوم بها أفراد على صلة أسرية قريبة بمراجع عديدة معتبرة.
ويسجل لييل مفارقة بين ما يؤمن به وما يفعله عموم جمهور الطائفة، وأداء المراجع ورجال الطبقة العليا التي تمتلك السلطة والنفوذ، فما يؤديه الأخيرون ليس سوى نوع من التقرّب لأتباعهم، والتعبير عن مشاعر زائفة وغير صادقة، وغالباً ما يكون ذلك من موجبات السلطة، والحفاظ على النفوذ، مشيراً إلى أنهم اعتادوا الخروج في مواكب خاصة محفوفة بالهيبة، والمشاركة، أحياناً، في اللطم لإظهار التزامهم المصطنع أمام مريديهم.
ما سجله لييل عن هذه المفارقة يمكن رصده في أيامنا هذه، إذ نقلت لنا الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي مشاهد حضور مرجعيات دينية، ورجال الطبقة السياسية الحاكمة، أماكن التجمعات، ومشاركتهم في المسيرات، وإصرار بعضهم على إطعام المشاركين بأنفسهم، أو حتى إعدادهم الطبخ، إضافة الى أدائهم حركات اللطم على صدورهم، واستدرار دموع الحزن، وممارسة التطبير على نحوٍ يظهر الالتزام بالشعائر المذهبية، والإيحاء بالتقوى والورع.
ما سجله لييل من مفارقات مازال قائماً منذ قرون، إلا أن أحداً لا يستطيع أن يفتح فمه بمناقشته، لئلا يناله غضب المتطرفين ومراجعهم، أو يتعرّض لتهديد بالقتل، ويرى بعضهم أن نقد هذه الظواهر يدخل في دائرة المحرّمات التي يجب عدم الاقتراب منها، فيما يُدرك العقلاء أن الذين يخافون من النقد الذي يوجّه إليهم إنما يخافون على إيمانهم، و"الذين يخافون على إيمانهم، كما يقول القصيمي، قوم لا يثقون بأيمانهم".