درس الديمقراطية البريطانية
لكن، بعيداً عن هذه المفاجآت، وما تحمله من رهانات للبلد ولأصحابها، حملت نتائج الانتخابات ما هو إيجابي، وما يمكن أن يكون درساً جديداً في الديمقراطية. فقد شهدت أحزاب عدة استقالات جماعية طوعية لرؤسائها، بعد خسارتهم في الانتخابات. أبرزهم زعيم حزب العمال، إد ميليباند، وزعيم حزب الليبراليين الديمقراطيين، نيكولاس كليغ، ونايجل فاراج، زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة.
اعترف ميليباند بهزيمة حزبه، وعبّر عن أسفه لما حصل، قبل أن يعلن عن تحمل مسؤولية الهزيمة، ويقدم استقالته حتى يتولى شخص آخر غيره قيادة حزب العمال، لأن بريطانيا، حسب قوله، تحتاج إلى حزب عمال قوي، يمكنه إعادة بناء نفسه بعد هزيمة. وقرر ميليباند، بكل بساطة، العودة إلى بيته، والاهتمام بأسرته الصغيرة. اتخذ القرار نفسه زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة، نايجل فاراج، الذي قدم استقالته من زعامة الحزب، بعد خسارته في الانتخابات، وفشله في الفوز بمقعد في البرلمان. وعلى الرغم من أن زعيم حزب الليبراليين الديمقراطيين، نيكولاس كليج، لم يخسر مقعده بهذه الانتخابات، إلا أنه قرر تقديم استقالته، لأن حزبه خسر الانتخابات.
وتلتقي هذه الاستقالات الثلاث في أمور كثيرة تجمعها، أولها حس المسؤولية العالي عند الزعماء الثلاثة الذين أقروا بهزيمتهم، واعترفوا بتحملهم مسؤولية الهزيمة، وقرروا الانسحاب بهدوء. الثاني أنها جاءت شخصية وفورية. فالمستقيلون لم ينتظروا حتى تجتمع أجهزة أحزابهم لتحاسبهم، وتقرر في مصيرهم، كما لم ينتظروا أن تصدر الانتقادات في الصحف، أو تتعالى الأصوات بين جمهور أحزابهم، وإنما بادروا بمحاسبة أنفسهم بأنفسهم، وبسرعة قبل أن يحاسبهم الآخرون. الأمر الثالث الذي طبع هذه الاستقالات توجه أصحابها مباشرة إلى الرأي العام لتقديم استقالاتهم، وليس إلى الأجهزة الحزبية، أو إلى جماهير أحزابهم، وفي هذا احترام للرأي العام، وتأكيد، أن الحزب ما هو إلا وسيلة تنظيمية لخدمة المصلحة العامة، أولاً، وقبل كل شيء آخر.
أخيراً، من أملى هذه الاستقالات على زعماء رؤساء الأحزاب الثلاثة ضميرهم عندما قرروا التخلي عن مناصبهم، والانتصار لشرف تحمل المسؤولية ضد إغراء التمسك بالمنصب والزعامة.
وليست مثل هذا السلوكات مفاجئة في بيئة ديمقراطية عريقة، مثل البيئة البريطانية التي شهدت ولادة أعرق ديمقراطية في العالم، لأن الثقافة الديمقراطية تعني، بكل بساطة، ربط المسؤولية بالمحاسبة، فمحاسبة المسؤول في النظام الديمقراطي جزء أصيل من الثقافة الديمقراطية الحقيقية.
مع الأسف، مثل هذه الثقافة، ثقافة ربط المسؤولية بالمحاسبة تغيب في المنطقة العربية، وغيابها هو الذي أدى إلى كل الكوارث التي تعيشها هذه المنطقة، منذ أكثر من نصف قرن، حفاظاً على "الزعيم الضرورة". وكانت هزيمة عام 1967 أكبر تجلٍّ لثقافة "الزعيم الخالد"، عندما خرجت الجماهير تبكي في شوارع القاهرة، تتوسل بقاء الزعيم الذي ألحقت إسرائيل أكبر هزيمة بجيشه وبلده في ستة أيام، ومع ذلك خرجت الجماهير تتوسل بقاءه، وليس محاسبته. ويتكرر السيناريو في كل دورة انتخابية لمبايعة الرئيس الأبدي للسودان، والذي مازال يتربع على عرش بلاد قسمها إلى نصفين، والنصف الباقي مهدد بالانشطار إلى أقسام لا عدّ لها. أما اليمن السعيد فقد حولها شمشونها إلى خرابٍ يقف فوقه، ويظهر على شاشات التلفزة ينعيه مثل الغربان.
ليست الديمقراطية مجرد عملية اقتراع صورية، أو تعددية حزبية شكلية، وإنما هي منظومة قيم متكاملة، لا يمكن أن نأخذ منها ما يعجبنا، ونتجاهل ما لا يتوافق مع طبائعنا التي تميل إلى الأنانية والاستفراد والاستحواذ والاستبداد. الديمقراطية، بكل بساطة، هي ربط المسؤولية بالمحاسبة. والمحاسبة هي التفعيل الحقيقي للممارسة الديمقراطية، وعندما تكون هذه المحاسبة ذاتية، وتأتي من أول مسؤول داخل الحزب أو التنظيم أو الدولة، فهي تعبر عن أكبر تجل لترسخ الثقافة الديمقراطية.
المهم في انتخابات بريطانيا، الأسبوع الماضي، أن بريطانيا التي توصف بأنها أعرق بلد ديمقراطي مازالت قادرة على أن تعطي للعالم دروساً جديدة في الديمقراطية، وهذه عبقرية هذا النظام الذي قال عنه رئيس وزراء بريطانيا السابق، وينستون تشرشل، إنه أسوأ أنواع الحكم، لكن المشكلة أنه ليس هناك ما هو أحسن منه.