غارات السودان واستراتيجية الإلهاء
أما السودان الذي قضى فيه النسر آنذاك إجازة الشتاء، جزءاً من هجرته السنوية، وأهل السودان مشغولون بتبعات انفصال الجنوب وتقسيم الأرض، فلم يعيروا السماء نظرة، ليروا الطائر يُحلّق فوق رؤوسهم، إلّا بعد أن صرّحت مجموعة إعلامية إسرائيلية أنّ النسر الأصلع كان في السودان، وأُمسك به في السعودية. وزادت المجموعة أنّه ليس الطائر الأول الذي يُرسل ضمن مشروع تتبع الطيور لأهداف بحثية، وإنّما هناك سبعة طيور من فصيلة هذا النسر خضعت للتجربة نفسها في السنوات الماضية. ولكن حظ الطائر العاثر هذا جعله يقع في يد قنّاص سعودي، شمال وسط السعودية، بينما فُقد الاتصال بالبقية. ولم يكن النظام السوداني يدري، بطبيعة الحال، عن الطيور الأخرى شيئاً.
الآن، تواجه سماء السودان اختراقات جوية تظهر بين فينة وأخرى. استهدفت غارة جوية فجر الأربعاء الماضي، 6 مايو/ أيار الجاري، مصنعاً للأسلحة ينتج صواريخ سكود بعيدة المدى، في منطقة وادي سيدنا في مدينة أم درمان. وقد بلغت الكوميديا قمّتها في الحديث عن كائن فضائي يزور السودان من وقتٍ إلى آخر. ويترك الناس في استفهامهم، مطوقين بأسئلتهم البريئة عن كنه هذا الكائن الذي وصفته الحكومة بأنّه جسمٌ مضيء، فكانت الإجابات الرسمية مضطربة وكارثية. وإلى هذه اللحظة، لم تخرج الحكومة بتصريح مشفوع بتحليل منطقي. غاب المحللون وغاب الخبراء العسكريون وخبراء الأرصاد، وبقيت تكهنات المواطنين التي ترى عين ما يراه المسؤول الهمام، من أنّ ذاك الجسم هو "النجمة أم ضنب"، في اللهجة العامية السودانية، أي المذنّب.
تُبرز هذه الغارات العديدة أسئلة شتى، أهمّها ما مدى مقدرة السودان على حماية أرضه ومجاله الجوي؟ والسؤال الآخر، لماذا لا تتهم الحكومة السودانية إسرائيل مباشرة، وتتخذ خطوات جادة للرد بالاستعانة بالمجتمع الدولي، واكتفت بالاتهام الشكلي والمموّه؟
ووفقاً لتحليلات عسكرية جاءت، في ضربات سابقة، ثمّة ثغرات واضحة في تغطية الرادارات السودانية، وأنّ تلك الغارات كشفت عن وجود خطأ تأميني، يجعل الأجواء السودانية مستباحة. ولأنّ حرص نظام الإنقاذ على التشبث بالسلطة يصل إلى أبعد الحدود، فهو يحشد كل الجهود المبذولة، والتي تتضمن القوات المسلحة وقوات جهاز الأمن والمخابرات وأجهزة الشرطة، في استنفارٍ تام لحماية النظام وأجهزته وأفراده، وليس لحماية البلد وحدوده. ويتم صرف أكثر من 75% من موازنة السودان على الأمن والدفاع وترهيب الشعب وقمعه، ما يؤكد وجود خلل في سياسات الحكومة، وفي مفهومها للأمن القومي.
وتبرز هنا قوة النظام المحمي بهذه الحشود على حساب قوة الدولة، لأنّ الحكومة سحبت القوات المسلحة من وظيفتها الأساسية، وهي الذود عن الوطن، لصالح الذود عن النظام. ويُعتبر المحرّك الأساسي لدخول القوات الحكومية، مدعومة بمليشيا الجنجويد، في المعارك مع الحركات المتمردة المسلّحة في دارفور ومنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، هو حماية النظام، لأنّ غرض هذه الحركات تغيير هذا النظام الذي كان سبباً في قيام الحرب في دارفور، وفي انفصال الجنوب لتنتقل الصراعات إلى الجنوب الجديد، بالأسباب الإثنية نفسها والتهميش.
تقف فرضية أن يكون هذا الفعل قامت به إسرائيل على قواعد تتأرجح بين احتمالين، هما أن تكون هي، فعلاً، من قامت بالضربة الجوية، وبين حيثيات أخرى ترجّح احتمال أنّ تكون الفرضية مبتدعة. الأوّل، ما جاء على لسان الحكومة، فليس غريباً أن تقوم إسرائيل بهذا الفعل، ليظهر، بعد فترة، أنّ الضربة الجوية جاءت نتيجة تتبع عناصر مطلوبة لديها أو غيرها من المبرّرات، مثلما حدث من قبل. ففي عام 2009، شن سلاح الجو الإسرائيلي ثلاث غارات على السودان في الحدود مع مصر، وفي سلسلة جبال البحر الأحمر. وجاء في تقارير عناصر الأمن الإسرائيلي أنّ القوافل كانت 23 شاحنة، تحمل 120 طناً من الوسائل القتالية، بينها صواريخ مضادة للدبابات، وصواريخ من طراز "فجر3"، وهي أسلحة من إيران في طريقها إلى حركة حماس في قطاع غزة. واتهمت السلطات السودانية إسرائيل بشن غارة جوية في الرابع من يونيو/حزيران 2011، استهدفت سيارة في بورتسودان شرقي البلاد، أدت إلى سقوط قتيلين، تمت الإشارة إلى ضلوع أحدهما في تجارة السلاح. ونظراً لإصابة صاروخ هدفاً أرضياً متحركاً، عزا محللون ذلك إلى وجود عناصر استخبارات إسرائيلية، أو عملاء لجهاز الموساد في هذه المدينة الساحلية ومينائها المفتوح الذي
كان يشهد عمليات عديدة تتعلق بتجارة البشر والأسلحة. كما اتهمت الخرطوم إسرائيل بمهاجمة مصنع اليرموك للذخيرة، جنوب الخرطوم في أكتوبر/تشرين الأول 2012، حيث وجهت طائرات ضربات لمصنع اليرموك لصناعة الذخيرة جنوبي العاصمة الخرطوم، تسببت في مقتل مواطنين وإصابة ثالث، كما أشعلت النيران في جوانب المجمع، وألحقت أضراراً مادية كبيرة بمنازل في المنطقة. ومنذ ذلك الوقت، والحكومة على لسان وزير إعلامها، أحمد بلال عثمان، تتوعد إسرائيل بالملاحقة في كل المحافل الدولية، لانتزاع حق السودان جراء هذا الاعتداء، والإعلان عن الاحتفاظ بحق الرد على إسرائيل في الزمان والمكان المناسبين.
ويُرجّح اتهام إسرائيل، لأنّ ذلك يأتي في إطار طلب الدعم المعنوي، وسعي الحكومة الحثيث إلى إثبات استهداف السودان، واستدرار التعاطف الدولي، والعربي خصوصاً. وتحتاج الحكومة هذا النوع من الدعم المعنوي، أكثر من أي وقت مضى، ولا سيما بعد خفوت الوهج الإعلامي، وانتهاء عناصر الإثارة بفوز عمر البشير بولاية رئاسية جديدة. كما أنّ هناك احتمال أنّ الحكومة تريد صرف الأنظار عن شائعات الإنقلابات العسكرية المُجهضة، التي يُقال إنّ هذه الضربة إحدى محاولاتها، وذلك بتوحيد الشعب ضد عدو خارجي. وسيكون من مصلحة الحكومة تعليق الضربة على إسرائيل، حتى تُلهي الشعب عن تسقّط أخبار الضربة المزمعة التي أنذرت بها قوات حركة العدل والمساواة، لتكون الضربة الثانية، بعد غزوها الأول أم درمان 10 مايو/أيار 2008. ومتوقعٌ أن تجد هذه القوات حال دخولها الخرطوم الدعم من الشعب اليائس والمنتظر خلاصاً يأتيه من أي جهة، ولو كانت من الحركات المتمردة.
تقف الحكومة السودانية حائرة بين أن تثبت أنّ هذه الضربة من إسرائيل، وتشرع في تنفيذ حملة ديبلوماسية وسياسية واسعة النطاق، لحشد إدانة دولية لهذا العدوان، وتجاهلها وتكون قد خسرت رزقاً مجانياً بطلب العون والتعاطف. أما لماذا لا تسعى الحكومة السودانية إلى إثبات أنّ الضربة موجهة من إسرائيل، فذلك نظراً لأنّه سيفتح عليها أبواباً سعت، طوال الفترة الماضية، إلى سدّها، وهي شبهات تكتّمها على وجود عناصر إرهابية، أو مجموعات مسلحة خارجية، تنشط في مجال توجيه ضربات لإسرائيل. ولن تستطيع الحكومة تحمّل أي تبعات لتحقيق قد يثبت عكس ذلك، لأنّ ضربة مصنع اليرموك للأسلحة عام 2012 جاءت على خلفية الدعم العسكري الإيراني الذي تمثّل في إنشاء هذا المصنع وغيره، في إطار العلاقات بين البلدين، وخدمة للوجود الإيراني في السودان. أمّا وقد ساءت العلاقات بين السودان وإيران، فلن يكون من مصلحة الحكومة الإشارة إلى أيّ تبرير لهذه الضربة، لأنّه سيضعها في موضع الشبهات، وسيبدّد الثقة التي اكتسبتها خليجياً بعد مشاركة السودان في قوات التحالف العربي ضد الحوثيين في اليمن، والمدعومين من إيران.
هل تفتح هذه الخاتمة أسئلة أخرى عن وجود لاعب لا يقلُّ شراسة عن إسرائيل؟ ربما، لكن المؤكد أنّ افتقار الحكومة السودانية المصداقية والشفافية، هو ما يترك الأبواب مشرعةً لكلّ الاحتمالات التي ستكون بالنسبة للسودانيين جزءاً من "أسرار الآلهة"، ولكن على الطريقة الإفريقية.