26 سبتمبر 2018
المستقبل الجيوسياسي الأوروبي والأزمات الخانقة
فاجأ المدير السابق لصندوق النقد الدولي، أشوكا مودي، المنظومة الأوروبية، حين اقترح مغادرة ألمانيا نادي اليورو بدلا من اليونان، في وقت ما زال وزير المالية الألماني، فولفغانغ شوبليه، يحتفظ بخطّة مغادرة اليونان نادي اليورو في أدراج مكتبه، باعتبار هذه الإمكانية قائمة، على الرغم من حزمة القروض المقدّمة لليونان، لإنقاذها من إفلاس محقّق في الوقت الراهن. ويبرّر الخبير المالي، ذو الأصول الهندية والمعارض سياسة شدّ الأحزمة، تفضيله مغادرة ألمانيا نادي اليورو بدلا من اليونان، إلى الفشل، بالتوصل إلى اتّحاد مالي متين ما بين الدول التي تمتلك مقدّرات اقتصادية متباينة وغير متكافئة، على الرغم من محاولات التوصل إلى اتفاقية بين الأطراف الأوروبية، وعدم وجود منتصر، في نهاية المطاف، بشأن الدائنين واليونان، شعبًا ودولة، والدول الأخرى الغارقة بالديون. ولا توجد كذلك آفاق للتغيير، لأنّ استراتيجية الحكومة اليونانية تحديدًا كرمز للأزمة لم تتغير جذريًا، على الرغم من الإصلاحات التي أعلنتها حكومة تسيبراس أخيراً.
ويضيف الخبير في مقاله في صحيفة "Bloomberg View" إنّ ألمانيا، كأكبر دائني اليونان، قد سدّدت هدفًا في مرماها، حين اقترحت خروج اليونان من نادي اليورو، لأنّ هذا يعني استحالة تسديد اليونان دينها المقدّر باليورو، واعتمادها الدراخما في تداولاتها المالية، وسيؤدي الضغط الكبير الممارس تجاه اليونان إلى مزيد من المخاطر، من الدول التي توجد في وضع شبيه لليونان، كما الحال بالنسبة لإيطاليا والبرتغال، وإذا ما طلب منهما مغادرة نادي اليورو، فهذا يعني عمليًا بدء انهيار النادي.
انسحاب ألمانيا من نادي اليورو وعودة المارك
يرى مودي أنّ عودة ألمانيا إلى عملتها الأصلية، المارك، سيؤدّي بالطبع إلى إضعاف قيمة صرف اليورو، وستتمكن الدول المتأزّمة اقتصاديًا وماليًا، كاليونان والبرتغال وإسبانيا، من استعادة عافيتها وقدرتها على المنافسة، وقد تلجأ دول المحور الغنيّ في أوروبا (هولندا والنمسا وغيرها)، لتأسيس اتحاد مالي جديد، ما سيؤدّي إلى إضعاف اليورو بصورة أكبر، وإتاحة المجال للدول المدينة، بتسديد ديونها باليورو بسهولة. هذا السيناريو مناسب لعدم وجود خاسر في المستوى البعيد، وسيمتلك المارك الألماني القدرة على شراء سلع وخدمات أكبر، بقيمة ثابتة. ويمكن لألمانيا طرح سلع نوعية في مقابل عملتها القوية، وهناك دائمًا من يرغب بتسوّق هذا النمط من المنتجات.
ألمانيا، وحسب مودي، ستقدّم خدمة كبيرة لنادي اليورو حال خروجها منه، لأنّ سيطرتها المطلقة من الناحية العملية تخنق النادي، وتحرم الدول الفقيرة، في شرق أوروبا ووسطها، من القدرة على التمتّع بممارسة المنافسة الاقتصادية.
تمكّنت أوروبا، من دون شكّ، من تنظيم كل الخلافات والصراعات بين دولها من خلال تأسيس الاتحاد واعتماد اليورو عملة متداولة على الصعيدين، الأوروبي والدولي، وعلى الرغم من كل المساوئ والصعوبات التي تمرّ بها أوروبا، إلا أنّ قيمها هي المثال الأعلى لمجتمعات دولية عديدة. لكن أهم ما توصّل إليه الاتحاد من اتفاق هو عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنظومة والجوار. عرفت الدول الأوروبية، وخلال القرون المتوسطة، ومارست الاحتلال العسكري والانتداب والتوسع قروناً طويلة، بيد أنّ معاهدة صلح وستفاليا، المبرمة خلال العام 1648، أنهت الصراع المسلح، وأوقفت حمّام الدمّ بين الدول الأوروبية، ووضعت أسس النظام العالمي المكرّس في وقتنا الحاضر.
المنظومة الأوروبية هي تطبيق معاصر لمبادئ اتفاقية صلح وستفاليا، كما جاء في كتاب هنري كيسنجر "النظام العالمي"، وأهمّها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، علمًا أنّ اتفاقية وستفاليا وضعت حدًا لحرب الأعوام الثلاثين في الإمبراطورية الرومانية وحرب الثمانين عامًا بين إسبانيا ومملكة الأراضي المنخفضة المتّحدة. أتاحت مبادئ وستفاليا وتطبيقاتها المعاصرة المجال لتجاوز الطابع الوطني، والتأسيس لقوّة إقليمية اقتصادية واجتماعية، أدّت إلى سقوط الحواجز والحدود بين دول الاتحاد، وهذا تجسيد عملي لفكرة العولمة التي طالبت بها اتفاقية وستفاليا. كما أدّى نموذج الاتحاد الأوروبي إلى إضعاف السيادة الوطنية والوظائف المؤسساتية الرسمية، مثالا على ذلك، نجاح المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي في فرض إرادتهما على القرار المركزي لدولٍ عديدة، تعرّضت لهزّات اقتصادية، كالبرتغال وإسبانيا وقبرص واليونان، أخيراً، من دون التدخّل في الشأن السياسي الداخلي للدول الأعضاء. وهناك سياسات خارجية، تنتهجها بعض الدول، لا تتوافق مع توجّهات بروكسل، مثل هنغاريا. وتبدو المنظومة كأنّها مؤسّسة هجينة ما بين دولة وكونفدرالية، تعمل من خلال لقاءات وزارية موسّعة، وعقد مؤتمرات قمّة متواصلة، بما في ذلك من بيروقراطية شاملة، كما هو متوقع في ظلّ العمل المؤسّساتي الكبير والشامل. وعلى الرغم من ذلك، يسعى الاتحاد إلى التطوّر والنضوج، ومواجهة التوتّر الداخلي بالمحافظة على مبادئه، الموروثة منذ اتفاقية صلح ويستفاليا. وقد يتمكّن الاتحاد يوماً من وضع أسس قضائية وضرائبية ومالية ومؤسّساتيّة موحّدة، تساعد بالتغلّب على التوتّر الداخلي والتناقضات المتراكمة بين دول الاتحاد.
وبشأن السياسة الخارجية للمنظومة الأوروبية، فخلافًا لماضيها التي احتكرت وفرضت سيطرتها في تشكيل النظام العالمي في القرن العشرين، تبذل أوروبا جهودًا كبيرة لترتيب البيت الداخلي وإيجاد الحلول العاجلة لأزماتها الاقتصاديّة، وتحقيق السلام الداخلي في كامل دول المنظومة، وفقًا لمبادئها العريقة، وبمعزل عن التكتّلات الخارجيّة على حدودها مثالا على ذلك منظومة أفرازيا، إضافة إلى التحديّات الكبيرة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، حيث تبدو المنظومة، في خضمّها، بمثابة المراقب السلبي القلق والحائر إزاء الأحداث الدامية في المشرق، وإمكانيات ظهور دول جديدة، وترسيم غير مسبوق للحدود بين الأقاليم المختلفة، المرشّحة للحصول على مسميّات، وفقًا للأقليّات التي تقطنها.
يرى كيسنجر كذلك أنّ المشكلات الاقتصادية، وتباين مستوى المعيشة بين أطراف الاتحاد، أدّى إلى ظهور نزعات عاطفية وطنيّة لدى بعض القادة الأوروبيين، بعيدًا عن الدور الذي حدّدته بروكسل، إرضاءً للرغبات الشعبوية، وتحديدًا بعد 2009، ما يدلّ على أنّ المجتمع الأوروبي ما زال يبحث عن بوتقة متكافئة ومتماثلة، ما يؤدّي تلقائيًا إلى التنازل عن مزيد من السيادة الوطنية. وعلى المنظومة أن تجيب عن أسئلة عديدة، في هذا السياق، أهمها: ما مدى الوحدة المنشودة، وما مدى الخلاف والتباين الذي يمكن تحمّله، وتحمّل تبعاته؟
تتعرّض أوروبا، في الوقت الراهن، للتأثير المتوقّع للمسار المنعكس للبوميرانغ المرتدّ إلى نحرها، أوروبا تقع تحت تأثير العالم المحيط، بدلا من لعب دور المؤثّر الخلاق. شرقاً، يمكن مراقبة التطورات الحثيثة في منظومة أفرازيا، والنظام الأطلسي ما خلف المحيط من جهة أخرى، وأوروبا أقرب ما تكون منه للأطلسي، أكثر من أيّ وقتٍ مضى. لكن، عليها المحافظة على حالة التوازن النسبيّ على المستوى القارّي، في أسوأ الأحوال. يطرح كيسنجر هذه الرؤية في وقت تتحكّم فيه الولايات المتحدة الأميركية بالقرار العسكري، وتحوم فيه المقاتلات والسفن العسكرية للناتو، بقيادة أميركية، الأجواء الأوروبية، والبحر الأسود ليس بعيدًا عن الحدود الروسية، أخذًا بالاعتبار التحالفات القارّية الجديدة، كالهند والبرازيل ومنظومة بريكس، والتركة المتوقعة كنتيجة منطقية للصراع المحتدم في إقليم الشرق الأوسط، ونجاح إيران بتمرير برنامجها النووي، ونيلها دورًا جيوسياسيًا جديدًا على حساب دول كثيرة في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل. وحال تشكيل مجتمع أطلسي موسّع في المستقبل المنظور أو البعيد، تبرز بعض الأسئلة، أهمّها: الكيفية التي سيقدّم فيه هذا المجتمع الهجين نفسه، وما هي القيم التي ستسود في القارة الأوروبية، في ظلّ وجود تناقض وتباين سياسي، وربّما أخلاقي، بين اليمين واليسار واليمين المتطرّف واليسار المتطرّف؟ يمكن للمجتمع الجديد أن يتوصّل إلى الحدّ الأدنى من التوافق، حال زوال الفروقات الاجتماعية والاقتصادية، لكنّ هذا صعب المنال في الوقت الراهن، حيث نشاهد مكوّنات لجاليات إيطالية وبريطانية في بلغاريا ورومانيا ودول أوروبا الشرقية، تعيش برفاهية واضحة، بمخصّصات تقاعدها فقط، في وقت لا يمكنها توفير الحدّ الأدنى للحياة في بلادها. وفي هذا السياق، نتساءل، كيف ينظر المواطن اليوناني الذي يعاني من أزمات اقتصادية متتالية للمواطن الألماني الذي يتمتع بمستوى حياة رفيع للغاية؟ وكيف ينظر المواطن الألماني لمثيله الأوروبي اليوناني، وهو على علم بأنّ جزءًا من مدّخراته وجهده، قد أنفق وهدر في اليونان؟
على المنظومة الأوروبية أن تحدّد دورها الجيوسياسي، وما إذا رغبت أن تلعب دورًا أصوليًا في تشكيل النظام العالمي الجديد، أم ربّما ستبقى أسيرة لمشكلاتها الداخلية المتفاقمة. الولايات المتحدة الأميركية التي توصّلت إلى اتفاق فدرالي وصيغة اقتصادية متماثلة بين ولاياتها قادرة على تقديم المساعدة للمنظومة الأوروبية، كي لا تحيد عن خطّ مسيرتها نحو فراغ جيوسياسي، في وقتٍ ستصبح فيه أميركا جزيرة جيوسياسية، عند حدود أفرازيا.
الأزمة اليونانية امتحاناً
كشفت الأزمة اليونانية عن متناقضات وتباينات كثيرة في المجتمعات الأوروبيّة، وطُرحت في المحافل والمنتديات تساؤلات كثيرة، هل الشعب اليوناني كسول، ولا يرغب بالعمل وتحمّل سياسة شدّ الأحزمة؟ أم أنّ هذا الطرح مجحف بحقّ هذا الشعب، ذي التاريخ العريق الذي قدّم للإنسانيّة مفهوم الديمقراطيّة؟ وهناك منحى آخر، يصبّ في الرؤية التي تطرقنا إليها سابقًا، هل تعمل الآليات المؤسّساتية والقانونية الأوروبية بصورة طبيعية؟ أم إنّ المنظومة في طريقها إلى نهاية مسدودة؟ كان من الممكن لعملة اليورو أن تلعب الدور المناط بها، حال تشكيل فيدرالية مالية متماثلة، وبعد التمكّن من إنجاح عمليات دمج المجتمعات الأوروبيّة، لتقريب مستويات الحياة، وتجنّب عمليّات هجرة داخلية كبيرة للغاية. وبالتالي، إيحاد بيئة ومناخ مثالي للأزمات المتتالية، في ظلّ إغراءات الديون المقدّمة، من دون وجود مقوّمات وطنية قادرة على سدادها ضمن البرامج المالية المعتمدة.
أدى طرح عملة اليورو، كما كان عليه الحال، في عولمة الدولار، إلى عملية جذب الأطراف والهامش الأوروبي إلى المحور (ألمانيا) كما هو متوقّع، وساعدت الأزمة اليونانية بالكشف عن التفاعلات والحراك المحتدم في قلب القارة الأوروبية، باعتبارها أزمة حادّة، فاقت مثيلاتها في البرتغال وإسبانيا وغيرها، رافق ذلك تمرّد السلطات اليونانية، ورفضها دفع ديونها، علينا كذلك ألا ننسى الدول الغارقة بالديون، كالبرتغال وإسبانيا وحتّى فرنسا، وليس من المتوقع أن تتمكّن الأخيرة من سداد ديونها المتراكمة في الخمسين سنة المقبلة. الأزمات الاقتصادية في دول أوروبيّة عديدة، وحال عدم إيجاد آلية لحلّها، أو التوصّل إلى صيغة مقبولة ترضي الجميع، قد تؤدّي إلى إحداث خلل بين المجتمعات الأوروبية، وربّما لرفع التوتّر الداخلي ونزعات الكراهية والتطرّف.
نجد أنّ التحدّيات الجيوسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة الداخليّة أجبرت المنظومة على الانكفاء على ذاتها، بحثًا عن أفضل السبل الممكنة لإيجاد الحلول لأزماتها التي اندلعت، منذ العام 2009، ولم تهدأ حتى اللحظة، والطروح المتداولة لا تتعدّى إطفاء الحرائق هنا وهناك، بانتظار تجدّدها أو اندلاعها في أماكن مجاورة.
انسحاب ألمانيا من نادي اليورو وعودة المارك
يرى مودي أنّ عودة ألمانيا إلى عملتها الأصلية، المارك، سيؤدّي بالطبع إلى إضعاف قيمة صرف اليورو، وستتمكن الدول المتأزّمة اقتصاديًا وماليًا، كاليونان والبرتغال وإسبانيا، من استعادة عافيتها وقدرتها على المنافسة، وقد تلجأ دول المحور الغنيّ في أوروبا (هولندا والنمسا وغيرها)، لتأسيس اتحاد مالي جديد، ما سيؤدّي إلى إضعاف اليورو بصورة أكبر، وإتاحة المجال للدول المدينة، بتسديد ديونها باليورو بسهولة. هذا السيناريو مناسب لعدم وجود خاسر في المستوى البعيد، وسيمتلك المارك الألماني القدرة على شراء سلع وخدمات أكبر، بقيمة ثابتة. ويمكن لألمانيا طرح سلع نوعية في مقابل عملتها القوية، وهناك دائمًا من يرغب بتسوّق هذا النمط من المنتجات.
ألمانيا، وحسب مودي، ستقدّم خدمة كبيرة لنادي اليورو حال خروجها منه، لأنّ سيطرتها المطلقة من الناحية العملية تخنق النادي، وتحرم الدول الفقيرة، في شرق أوروبا ووسطها، من القدرة على التمتّع بممارسة المنافسة الاقتصادية.
تمكّنت أوروبا، من دون شكّ، من تنظيم كل الخلافات والصراعات بين دولها من خلال تأسيس الاتحاد واعتماد اليورو عملة متداولة على الصعيدين، الأوروبي والدولي، وعلى الرغم من كل المساوئ والصعوبات التي تمرّ بها أوروبا، إلا أنّ قيمها هي المثال الأعلى لمجتمعات دولية عديدة. لكن أهم ما توصّل إليه الاتحاد من اتفاق هو عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنظومة والجوار. عرفت الدول الأوروبية، وخلال القرون المتوسطة، ومارست الاحتلال العسكري والانتداب والتوسع قروناً طويلة، بيد أنّ معاهدة صلح وستفاليا، المبرمة خلال العام 1648، أنهت الصراع المسلح، وأوقفت حمّام الدمّ بين الدول الأوروبية، ووضعت أسس النظام العالمي المكرّس في وقتنا الحاضر.
المنظومة الأوروبية هي تطبيق معاصر لمبادئ اتفاقية صلح وستفاليا، كما جاء في كتاب هنري كيسنجر "النظام العالمي"، وأهمّها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، علمًا أنّ اتفاقية وستفاليا وضعت حدًا لحرب الأعوام الثلاثين في الإمبراطورية الرومانية وحرب الثمانين عامًا بين إسبانيا ومملكة الأراضي المنخفضة المتّحدة. أتاحت مبادئ وستفاليا وتطبيقاتها المعاصرة المجال لتجاوز الطابع الوطني، والتأسيس لقوّة إقليمية اقتصادية واجتماعية، أدّت إلى سقوط الحواجز والحدود بين دول الاتحاد، وهذا تجسيد عملي لفكرة العولمة التي طالبت بها اتفاقية وستفاليا. كما أدّى نموذج الاتحاد الأوروبي إلى إضعاف السيادة الوطنية والوظائف المؤسساتية الرسمية، مثالا على ذلك، نجاح المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي في فرض إرادتهما على القرار المركزي لدولٍ عديدة، تعرّضت لهزّات اقتصادية، كالبرتغال وإسبانيا وقبرص واليونان، أخيراً، من دون التدخّل في الشأن السياسي الداخلي للدول الأعضاء. وهناك سياسات خارجية، تنتهجها بعض الدول، لا تتوافق مع توجّهات بروكسل، مثل هنغاريا. وتبدو المنظومة كأنّها مؤسّسة هجينة ما بين دولة وكونفدرالية، تعمل من خلال لقاءات وزارية موسّعة، وعقد مؤتمرات قمّة متواصلة، بما في ذلك من بيروقراطية شاملة، كما هو متوقع في ظلّ العمل المؤسّساتي الكبير والشامل. وعلى الرغم من ذلك، يسعى الاتحاد إلى التطوّر والنضوج، ومواجهة التوتّر الداخلي بالمحافظة على مبادئه، الموروثة منذ اتفاقية صلح ويستفاليا. وقد يتمكّن الاتحاد يوماً من وضع أسس قضائية وضرائبية ومالية ومؤسّساتيّة موحّدة، تساعد بالتغلّب على التوتّر الداخلي والتناقضات المتراكمة بين دول الاتحاد.
وبشأن السياسة الخارجية للمنظومة الأوروبية، فخلافًا لماضيها التي احتكرت وفرضت سيطرتها في تشكيل النظام العالمي في القرن العشرين، تبذل أوروبا جهودًا كبيرة لترتيب البيت الداخلي وإيجاد الحلول العاجلة لأزماتها الاقتصاديّة، وتحقيق السلام الداخلي في كامل دول المنظومة، وفقًا لمبادئها العريقة، وبمعزل عن التكتّلات الخارجيّة على حدودها مثالا على ذلك منظومة أفرازيا، إضافة إلى التحديّات الكبيرة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، حيث تبدو المنظومة، في خضمّها، بمثابة المراقب السلبي القلق والحائر إزاء الأحداث الدامية في المشرق، وإمكانيات ظهور دول جديدة، وترسيم غير مسبوق للحدود بين الأقاليم المختلفة، المرشّحة للحصول على مسميّات، وفقًا للأقليّات التي تقطنها.
يرى كيسنجر كذلك أنّ المشكلات الاقتصادية، وتباين مستوى المعيشة بين أطراف الاتحاد، أدّى إلى ظهور نزعات عاطفية وطنيّة لدى بعض القادة الأوروبيين، بعيدًا عن الدور الذي حدّدته بروكسل، إرضاءً للرغبات الشعبوية، وتحديدًا بعد 2009، ما يدلّ على أنّ المجتمع الأوروبي ما زال يبحث عن بوتقة متكافئة ومتماثلة، ما يؤدّي تلقائيًا إلى التنازل عن مزيد من السيادة الوطنية. وعلى المنظومة أن تجيب عن أسئلة عديدة، في هذا السياق، أهمها: ما مدى الوحدة المنشودة، وما مدى الخلاف والتباين الذي يمكن تحمّله، وتحمّل تبعاته؟
تتعرّض أوروبا، في الوقت الراهن، للتأثير المتوقّع للمسار المنعكس للبوميرانغ المرتدّ إلى نحرها، أوروبا تقع تحت تأثير العالم المحيط، بدلا من لعب دور المؤثّر الخلاق. شرقاً، يمكن مراقبة التطورات الحثيثة في منظومة أفرازيا، والنظام الأطلسي ما خلف المحيط من جهة أخرى، وأوروبا أقرب ما تكون منه للأطلسي، أكثر من أيّ وقتٍ مضى. لكن، عليها المحافظة على حالة التوازن النسبيّ على المستوى القارّي، في أسوأ الأحوال. يطرح كيسنجر هذه الرؤية في وقت تتحكّم فيه الولايات المتحدة الأميركية بالقرار العسكري، وتحوم فيه المقاتلات والسفن العسكرية للناتو، بقيادة أميركية، الأجواء الأوروبية، والبحر الأسود ليس بعيدًا عن الحدود الروسية، أخذًا بالاعتبار التحالفات القارّية الجديدة، كالهند والبرازيل ومنظومة بريكس، والتركة المتوقعة كنتيجة منطقية للصراع المحتدم في إقليم الشرق الأوسط، ونجاح إيران بتمرير برنامجها النووي، ونيلها دورًا جيوسياسيًا جديدًا على حساب دول كثيرة في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل. وحال تشكيل مجتمع أطلسي موسّع في المستقبل المنظور أو البعيد، تبرز بعض الأسئلة، أهمّها: الكيفية التي سيقدّم فيه هذا المجتمع الهجين نفسه، وما هي القيم التي ستسود في القارة الأوروبية، في ظلّ وجود تناقض وتباين سياسي، وربّما أخلاقي، بين اليمين واليسار واليمين المتطرّف واليسار المتطرّف؟ يمكن للمجتمع الجديد أن يتوصّل إلى الحدّ الأدنى من التوافق، حال زوال الفروقات الاجتماعية والاقتصادية، لكنّ هذا صعب المنال في الوقت الراهن، حيث نشاهد مكوّنات لجاليات إيطالية وبريطانية في بلغاريا ورومانيا ودول أوروبا الشرقية، تعيش برفاهية واضحة، بمخصّصات تقاعدها فقط، في وقت لا يمكنها توفير الحدّ الأدنى للحياة في بلادها. وفي هذا السياق، نتساءل، كيف ينظر المواطن اليوناني الذي يعاني من أزمات اقتصادية متتالية للمواطن الألماني الذي يتمتع بمستوى حياة رفيع للغاية؟ وكيف ينظر المواطن الألماني لمثيله الأوروبي اليوناني، وهو على علم بأنّ جزءًا من مدّخراته وجهده، قد أنفق وهدر في اليونان؟
على المنظومة الأوروبية أن تحدّد دورها الجيوسياسي، وما إذا رغبت أن تلعب دورًا أصوليًا في تشكيل النظام العالمي الجديد، أم ربّما ستبقى أسيرة لمشكلاتها الداخلية المتفاقمة. الولايات المتحدة الأميركية التي توصّلت إلى اتفاق فدرالي وصيغة اقتصادية متماثلة بين ولاياتها قادرة على تقديم المساعدة للمنظومة الأوروبية، كي لا تحيد عن خطّ مسيرتها نحو فراغ جيوسياسي، في وقتٍ ستصبح فيه أميركا جزيرة جيوسياسية، عند حدود أفرازيا.
الأزمة اليونانية امتحاناً
كشفت الأزمة اليونانية عن متناقضات وتباينات كثيرة في المجتمعات الأوروبيّة، وطُرحت في المحافل والمنتديات تساؤلات كثيرة، هل الشعب اليوناني كسول، ولا يرغب بالعمل وتحمّل سياسة شدّ الأحزمة؟ أم أنّ هذا الطرح مجحف بحقّ هذا الشعب، ذي التاريخ العريق الذي قدّم للإنسانيّة مفهوم الديمقراطيّة؟ وهناك منحى آخر، يصبّ في الرؤية التي تطرقنا إليها سابقًا، هل تعمل الآليات المؤسّساتية والقانونية الأوروبية بصورة طبيعية؟ أم إنّ المنظومة في طريقها إلى نهاية مسدودة؟ كان من الممكن لعملة اليورو أن تلعب الدور المناط بها، حال تشكيل فيدرالية مالية متماثلة، وبعد التمكّن من إنجاح عمليات دمج المجتمعات الأوروبيّة، لتقريب مستويات الحياة، وتجنّب عمليّات هجرة داخلية كبيرة للغاية. وبالتالي، إيحاد بيئة ومناخ مثالي للأزمات المتتالية، في ظلّ إغراءات الديون المقدّمة، من دون وجود مقوّمات وطنية قادرة على سدادها ضمن البرامج المالية المعتمدة.
أدى طرح عملة اليورو، كما كان عليه الحال، في عولمة الدولار، إلى عملية جذب الأطراف والهامش الأوروبي إلى المحور (ألمانيا) كما هو متوقّع، وساعدت الأزمة اليونانية بالكشف عن التفاعلات والحراك المحتدم في قلب القارة الأوروبية، باعتبارها أزمة حادّة، فاقت مثيلاتها في البرتغال وإسبانيا وغيرها، رافق ذلك تمرّد السلطات اليونانية، ورفضها دفع ديونها، علينا كذلك ألا ننسى الدول الغارقة بالديون، كالبرتغال وإسبانيا وحتّى فرنسا، وليس من المتوقع أن تتمكّن الأخيرة من سداد ديونها المتراكمة في الخمسين سنة المقبلة. الأزمات الاقتصادية في دول أوروبيّة عديدة، وحال عدم إيجاد آلية لحلّها، أو التوصّل إلى صيغة مقبولة ترضي الجميع، قد تؤدّي إلى إحداث خلل بين المجتمعات الأوروبية، وربّما لرفع التوتّر الداخلي ونزعات الكراهية والتطرّف.
نجد أنّ التحدّيات الجيوسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة الداخليّة أجبرت المنظومة على الانكفاء على ذاتها، بحثًا عن أفضل السبل الممكنة لإيجاد الحلول لأزماتها التي اندلعت، منذ العام 2009، ولم تهدأ حتى اللحظة، والطروح المتداولة لا تتعدّى إطفاء الحرائق هنا وهناك، بانتظار تجدّدها أو اندلاعها في أماكن مجاورة.