09 نوفمبر 2024
حتى لا تضيع حلب... كياناً وتراثاً إنسانياً
مشهد يفوق احتمال العاطفة الإنسانية، ويتجاوز قدرة اللغة على التعبير.. يجلس رجل خمسيني معفّرٌ بالتراب على الأرض ذاهلاً، تخونه عيناه في البكاء، أمامه كيس أسود ينحني عليه كل حين يفتحه، يقرب وجهه منه ويصيح "يا حسام.. يا حسام". ثم يرفع رأسه، ويفتح عينيه على خواء أجوف يبتلعه، ويبتلع كل المعاني.
تحوّل حسام أشلاء مكوّمة في كيسٍ أسود، بعد غارة روسية على حيّ في حلب الشرقية. وفي المشهد امرأةٌ تهرول في المكان، تلتف حول ساقيها اللتين تسابقان نبض القلب عباءةٌ سوداء تكبح جماحهما، تصارع الفراغ بيديها، وتشق بهما سحابة الغبار، تصرخ كالممسوسة: بنتي.. بنتي.. إيش صار فيها؟ بينما الدمار الحي ما زال يزفر أنفاسه الأخيرة، حارّة حارقة، كبقايا لسان مشتعل من فم تنين رهيب مرّ من هنا، من فوق سماء حلب محمولاً في طائر من صنع بشري، يجيد اختراق جدران الصوت وجدران الضمائر فيقتلها، متحدّياً جبروت العالم بجبروتٍ أكبر. لم يعد يهم إن كانت الطائرات التي تلقي حمم غضبها وحقدها على الآمنين في بيوتهم طائراتٍ بطيار أم بدونه، فتلك الأرواح الساكنة في أجسادها فوق الأرض تحوّلت أرقاماً يديرها الطيار بشغف طفل أرعن، يلعب البلاي ستيشن، أو لعبة الحرب الذكية على لوحة اللابتوب، ربما يفرحه حدّ النشوة انتصارٌ يحصد فيه عدداً أكبر من الأرقام/ الضحايا.
تتدفق هذه المشاهد على الشاشات وجميع الوسائط بكل ما يحمل كل واحد فيها من دلائل دامغة على الهمجية التي تفوق التصوّر، مثلما تفوق ما يخزن التاريخ من تجارب مشابهة، ومن مؤثراتٍ يصح القول فيها إنها تفتت الحجر، لم تستطع إحداث خدشٍ بسيط في الضمير العالمي، لتبقى حلب لقدرها ومصيرها الأسود ساحة صراع دولي وإقليمي، كلما اشتد أكثر فاجأتنا تصريحات الأقوياء بأن النفق صار أشدّ ظلاماً وظلماً وإظلاماً.
قدر يعجز أبناء حلب عن مواجهته، وتحويل مصيرهم الذي يرسمه بأعتى ما وصل إليه العقل البشري من أسلحةٍ مصممةٍ بطاقات الشر والعنف. التقيت بأبٍ يمسك يد طفله الذي لم يكمل السنوات الست يريد تسجيله في إحدى مدارس اللاذقية التي جاءها هاجراً ومهجّراً بسبب طاحونة الحرب. قال لي: استطعت الهرب مع أولادي وزوجتي، لكن والدي، ومعه خمس من أخواتي، ما زالوا عالقين هناك. لا يستطيع والدي الخروج، فراتبه التقاعدي لا يتعدّى الخمسة والعشرين ألفاً، هو هناك يسكن في بيته، لو استطاع الإفلات من المسلحين الذين يمنعون الأهالي من المغادرة، فإن راتبه لا يكفيه أجرة بيت من غرفتين، فكيف يعيش هو وأخواتي؟ هم محاصرون مرة من المسلحين الذين يمنعونهم من المغادرة، ومرة من قوات النظام التي تمنع المساعدات من الدخول. قال لي: وصل سعر أسطوانة غاز الطبخ إلى الثمانين ألفاً. المياه نادرة، سعر صهريج المياه أربعة آلاف، معظم الناس يشربون من المياه الملوثة، فالماء يأتي مرة في الأسبوع ساعتين أو أكثر قليلاً.
هذه حلب التي سجلت تاريخاً من النكبات كانت تنهض منها مثل عنقاء أسطورية، وتعود إلى ترميم نفسها، وإعادة دورها الحضاري على مرّ العصور. لكن النكبة الكبرى، بل الكارثة الإنسانية التي تذهل التاريخ، على الرغم مما تحفل به ذاكرته من حروبٍ ميّزته وميّزت هذا النوع من المخلوقات الذي لم يترك للسلام في ماضيه أكثر من فتراتٍ قصيرة تكاد تكون مهملة، ولم يستطع صنع السلام في حياته، على الرغم من أن المعاهدات التي وضعت بدعوى السلام، منذ العام 1500 قبل الميلاد حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تفوق الثمانية آلاف، أسست نظرياً لسلام دائم لكن أطولها لم يدم أكثر من عامين، هي الكارثة التي تحلّ بحلب اليوم.
يسعى عديدون من أبناء حلب الحريصين عليها وعلى تراثها الإنساني إلى التوثيق، ومن بينهم الباحث محمد قجّة، يقول تحت عنوان "حلب ألم التدمير .. وأمل التعمير": ويكتب حلب المحروسة لم تعرف، خلال تاريخها عبر آﻻف السنين، حالة من التدمير الممنهج، كالتي تشهدها منذ خمسة أعوام. قلعة حلب .. سيدة قلاع العالم تاريخاً وحجماً ودوراً مؤثراً، لحسن الحظ أنها نفسها لم تتعرّض لدمار ذي بال، لكن محيطها اﻷثري تم تدميره بتصميم وإصرار. ويعدّد قجة ويدوّن أسماء الأمكنة في محيطها، بعد أن يقدم وصفاً هندسياً موجزاً عن القلعة، وعن المعبد الذي يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، معبد الإله حدد والآلهة عشتار.
ثم هناك، كما يسجّل الباحث قجة، أسواق حلب المسقوفة الفريدة في العالم. ويعود تاريخها إلى القرن الرابع قبل الميلاد. وتتألف من سوق محوري، يمتد من باب أنطاكية حتى سوق الزرب، ويتفرع عنه 38 سوقاً بشكل رقعة شطرنجية. وتحمل اﻷسواق غالباً تسميات مهنية. أما الجامع الأموي في حلب فيعود تاريخه إلى عام 717م. وتأتي فرادته المعمارية من مئذنته التي تعد من أجمل مآذن العالم اﻹسلامي. ارتفاعها 46 متراً. وهي مربعة ضلعها 4.95 أمتار. ولها ستة أشرطة كتابية، تؤرخ بناءها في الفترة السلجوقية قبل ألف سنة تقريباً. إلا أن المئذنة اﻷموية هدمها نقفور 962 م. وتدمير هذه المئذنة الفريدة اليوم كارثة معمارية وتاريخية وحضارية. ويسأل الباحث محمد قجّة ابن مدينة حلب: متى نبدأ تعمير تلك اﻷماكن مع كل
حلب المدمرة؟ من سيقوم بذلك؟ من سيخطط ويضع البرامج؟ ويتابع: سؤال خطير ينتظر أبناء البلد المخلصين الخبراء لينهضوا بهذا العبء، والعمائر المدمرة موثقة ومؤرشفة ومخططاتها محفوظة. ولكن ثمّة لصوص اﻷزمات وتجار الحروب الذين لديهم مخططات أخرى من اﻷبراج واﻷسواق الحديثة، ما يلغي شخصية المدينة وتاريخها وخصوصيتها العالمية، وهذا لن نقبل به مطلقاً.
يمثل هذا الصوت ضمير الوطن، ويحمّل مسؤولية النخبة الثقافية الوطنية السورية المنوط بها الدور الحامي للهوية الحيّة المفتوحة على التطور والحداثة التي ترتبط بماضيها ارتباطاً حياتياً، مثل الحبل السري للجنين، الهوية المتصلة بالماضي من دون العيش فيه، وهو دور مطلوب بقوة من أجل الحفاظ على الأجهزة الحيوية التي تمنح الأوطان حياتها. لكنه ليس الدور الوحيد، فإعادة البناء والإعمار تتطلب إعادة بناء الإنسان، بالتوازي مع إعادة إعمار المكان. تعرّض الإنسان في سورية بشكل عام، وفي حلب خصوصاً في سنوات الحرب إلى أعتى عملية تشويه وانتهاك لكينونته، من يعيد السلام إلى ذلك الرجل الذي يخاطب أشلاء ابنه من كيس أسود؟ من يصحّح انتماء تلك الأم التي فقدت ابنتها تحت ركام غارةٍ حاقدة، ويعيد إليها معنى الأمكنة؟
من الحماقة الادّعاء أن كل شيء يمكن أن يعود إلى ما كان عليه، لا البشر ولا الحجر يمكن أن يعودوا إلى ما كانوا، لكن منطق الحياة يستدعي التفكير بإعادة التشكيل بصيغة أخرى للبناء الإنساني والمكاني السوري، بروح سورية العريقة، الروح التي أنتجت حضارةً إنسانية. تبقى العقبة الكبرى التي تتطلب موقفاً حازماً صلداً منتمياً للوطن يُبنى على المشتركات بين أبنائه، موقف يقول قبل كل شيء: لا. لا للجبابرة الذين يتحكّمون بأرضنا وأرواحنا ومصيرنا. لا لروسيا وأميركا وأذنابهما المحليين والإقليميين، لا لمن يمحو ماضينا وحاضرنا، ويرسم على أنقاضنا جغرافيا رأس المال العالمي المتوحش.
تحوّل حسام أشلاء مكوّمة في كيسٍ أسود، بعد غارة روسية على حيّ في حلب الشرقية. وفي المشهد امرأةٌ تهرول في المكان، تلتف حول ساقيها اللتين تسابقان نبض القلب عباءةٌ سوداء تكبح جماحهما، تصارع الفراغ بيديها، وتشق بهما سحابة الغبار، تصرخ كالممسوسة: بنتي.. بنتي.. إيش صار فيها؟ بينما الدمار الحي ما زال يزفر أنفاسه الأخيرة، حارّة حارقة، كبقايا لسان مشتعل من فم تنين رهيب مرّ من هنا، من فوق سماء حلب محمولاً في طائر من صنع بشري، يجيد اختراق جدران الصوت وجدران الضمائر فيقتلها، متحدّياً جبروت العالم بجبروتٍ أكبر. لم يعد يهم إن كانت الطائرات التي تلقي حمم غضبها وحقدها على الآمنين في بيوتهم طائراتٍ بطيار أم بدونه، فتلك الأرواح الساكنة في أجسادها فوق الأرض تحوّلت أرقاماً يديرها الطيار بشغف طفل أرعن، يلعب البلاي ستيشن، أو لعبة الحرب الذكية على لوحة اللابتوب، ربما يفرحه حدّ النشوة انتصارٌ يحصد فيه عدداً أكبر من الأرقام/ الضحايا.
تتدفق هذه المشاهد على الشاشات وجميع الوسائط بكل ما يحمل كل واحد فيها من دلائل دامغة على الهمجية التي تفوق التصوّر، مثلما تفوق ما يخزن التاريخ من تجارب مشابهة، ومن مؤثراتٍ يصح القول فيها إنها تفتت الحجر، لم تستطع إحداث خدشٍ بسيط في الضمير العالمي، لتبقى حلب لقدرها ومصيرها الأسود ساحة صراع دولي وإقليمي، كلما اشتد أكثر فاجأتنا تصريحات الأقوياء بأن النفق صار أشدّ ظلاماً وظلماً وإظلاماً.
قدر يعجز أبناء حلب عن مواجهته، وتحويل مصيرهم الذي يرسمه بأعتى ما وصل إليه العقل البشري من أسلحةٍ مصممةٍ بطاقات الشر والعنف. التقيت بأبٍ يمسك يد طفله الذي لم يكمل السنوات الست يريد تسجيله في إحدى مدارس اللاذقية التي جاءها هاجراً ومهجّراً بسبب طاحونة الحرب. قال لي: استطعت الهرب مع أولادي وزوجتي، لكن والدي، ومعه خمس من أخواتي، ما زالوا عالقين هناك. لا يستطيع والدي الخروج، فراتبه التقاعدي لا يتعدّى الخمسة والعشرين ألفاً، هو هناك يسكن في بيته، لو استطاع الإفلات من المسلحين الذين يمنعون الأهالي من المغادرة، فإن راتبه لا يكفيه أجرة بيت من غرفتين، فكيف يعيش هو وأخواتي؟ هم محاصرون مرة من المسلحين الذين يمنعونهم من المغادرة، ومرة من قوات النظام التي تمنع المساعدات من الدخول. قال لي: وصل سعر أسطوانة غاز الطبخ إلى الثمانين ألفاً. المياه نادرة، سعر صهريج المياه أربعة آلاف، معظم الناس يشربون من المياه الملوثة، فالماء يأتي مرة في الأسبوع ساعتين أو أكثر قليلاً.
هذه حلب التي سجلت تاريخاً من النكبات كانت تنهض منها مثل عنقاء أسطورية، وتعود إلى ترميم نفسها، وإعادة دورها الحضاري على مرّ العصور. لكن النكبة الكبرى، بل الكارثة الإنسانية التي تذهل التاريخ، على الرغم مما تحفل به ذاكرته من حروبٍ ميّزته وميّزت هذا النوع من المخلوقات الذي لم يترك للسلام في ماضيه أكثر من فتراتٍ قصيرة تكاد تكون مهملة، ولم يستطع صنع السلام في حياته، على الرغم من أن المعاهدات التي وضعت بدعوى السلام، منذ العام 1500 قبل الميلاد حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تفوق الثمانية آلاف، أسست نظرياً لسلام دائم لكن أطولها لم يدم أكثر من عامين، هي الكارثة التي تحلّ بحلب اليوم.
يسعى عديدون من أبناء حلب الحريصين عليها وعلى تراثها الإنساني إلى التوثيق، ومن بينهم الباحث محمد قجّة، يقول تحت عنوان "حلب ألم التدمير .. وأمل التعمير": ويكتب حلب المحروسة لم تعرف، خلال تاريخها عبر آﻻف السنين، حالة من التدمير الممنهج، كالتي تشهدها منذ خمسة أعوام. قلعة حلب .. سيدة قلاع العالم تاريخاً وحجماً ودوراً مؤثراً، لحسن الحظ أنها نفسها لم تتعرّض لدمار ذي بال، لكن محيطها اﻷثري تم تدميره بتصميم وإصرار. ويعدّد قجة ويدوّن أسماء الأمكنة في محيطها، بعد أن يقدم وصفاً هندسياً موجزاً عن القلعة، وعن المعبد الذي يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، معبد الإله حدد والآلهة عشتار.
ثم هناك، كما يسجّل الباحث قجة، أسواق حلب المسقوفة الفريدة في العالم. ويعود تاريخها إلى القرن الرابع قبل الميلاد. وتتألف من سوق محوري، يمتد من باب أنطاكية حتى سوق الزرب، ويتفرع عنه 38 سوقاً بشكل رقعة شطرنجية. وتحمل اﻷسواق غالباً تسميات مهنية. أما الجامع الأموي في حلب فيعود تاريخه إلى عام 717م. وتأتي فرادته المعمارية من مئذنته التي تعد من أجمل مآذن العالم اﻹسلامي. ارتفاعها 46 متراً. وهي مربعة ضلعها 4.95 أمتار. ولها ستة أشرطة كتابية، تؤرخ بناءها في الفترة السلجوقية قبل ألف سنة تقريباً. إلا أن المئذنة اﻷموية هدمها نقفور 962 م. وتدمير هذه المئذنة الفريدة اليوم كارثة معمارية وتاريخية وحضارية. ويسأل الباحث محمد قجّة ابن مدينة حلب: متى نبدأ تعمير تلك اﻷماكن مع كل
يمثل هذا الصوت ضمير الوطن، ويحمّل مسؤولية النخبة الثقافية الوطنية السورية المنوط بها الدور الحامي للهوية الحيّة المفتوحة على التطور والحداثة التي ترتبط بماضيها ارتباطاً حياتياً، مثل الحبل السري للجنين، الهوية المتصلة بالماضي من دون العيش فيه، وهو دور مطلوب بقوة من أجل الحفاظ على الأجهزة الحيوية التي تمنح الأوطان حياتها. لكنه ليس الدور الوحيد، فإعادة البناء والإعمار تتطلب إعادة بناء الإنسان، بالتوازي مع إعادة إعمار المكان. تعرّض الإنسان في سورية بشكل عام، وفي حلب خصوصاً في سنوات الحرب إلى أعتى عملية تشويه وانتهاك لكينونته، من يعيد السلام إلى ذلك الرجل الذي يخاطب أشلاء ابنه من كيس أسود؟ من يصحّح انتماء تلك الأم التي فقدت ابنتها تحت ركام غارةٍ حاقدة، ويعيد إليها معنى الأمكنة؟
من الحماقة الادّعاء أن كل شيء يمكن أن يعود إلى ما كان عليه، لا البشر ولا الحجر يمكن أن يعودوا إلى ما كانوا، لكن منطق الحياة يستدعي التفكير بإعادة التشكيل بصيغة أخرى للبناء الإنساني والمكاني السوري، بروح سورية العريقة، الروح التي أنتجت حضارةً إنسانية. تبقى العقبة الكبرى التي تتطلب موقفاً حازماً صلداً منتمياً للوطن يُبنى على المشتركات بين أبنائه، موقف يقول قبل كل شيء: لا. لا للجبابرة الذين يتحكّمون بأرضنا وأرواحنا ومصيرنا. لا لروسيا وأميركا وأذنابهما المحليين والإقليميين، لا لمن يمحو ماضينا وحاضرنا، ويرسم على أنقاضنا جغرافيا رأس المال العالمي المتوحش.
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024