07 نوفمبر 2024
عندما تكون القراءة قوة
القراءة قوة. لكن، ينبغي أن يعرف من يريد الاستفادة من قوّتها بعض أسرارها على الأقل، في سنٍّ صغيرة، لتكون سلاحه، وأحد منابع قوته المتصاعدة تدريجيا عندما يكبر. كثيرون يسألونني عن السن المناسبة للبدء بالقراءة، بعيداً عن القراءات المدرسية، فأحتار أمام سؤالٍ كهذا، ليس لأنه لا سنّ للقراءة وحسب، ولكن، أيضا لأن المرء يستطيع أن يبدأ القراءة إن فاته الالتحاق بركبها وهو صغير، من النقطة التي قرّر أنه يحتاج لها فعلا، وأنه ضعيف، مهما أوتي من قوى أخرى، بمعزلٍ عنها، ذلك أنها تعزّز تلك القوى إن وجدت، وتعمل على ترشيدها وتوجيهها أيضا، ثم إنها بالنسبة لمن يحبها لذة تجدّد نفسها بنفسها ذاتياً، ومن دون أن تنفد نهائياً.
ولهذا السبب تحديداً، ينبغي أن يكون العمل على ترغيب الصغار بالقراءة وترسيخها، كأحد أهم عناصر التنشئة والتربية واجباً مهماً من واجبات الآباء والأمهات أولاً، ثم رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني المعنية بشؤون الأطفال.
وعلى الرغم من صعوبة التحدّي الذي يمكن أن تواجهه كل هذه الجهات، وهي بصدد تنفيذ مثل هذه المهمة، إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في عدم إيمانها بجدواها بالنسبة لصغارٍ ترى أنهم سيكبرون، ويختارون هواياتهم بأنفسهم، ووفقاً لقدراتهم وقابلياتهم. وهذه رؤية وجيهة، بالنسبة لهواياتٍ أخرى كثيرة، لكنها ليست كذلك بالنسبة للقراءة تحديداً، فالقراءة تتجاوز فكرة الهواية، لتكون من عناصر تكوين الشخصية السويّة. وبالتالي، فعلى هذه الجهات أن تتوقف عن النظر إلى القراءة، باعتبارها هوايةً وحسب. وعندها فقط، يمكن أن تبدأ الخطوة الأولى من خطوات تكوين الشخصيات السوية لأجيال الغد. ومن هذه النقطة تحديداً، بدأت الحملة الوطنية للقراءة في قطر فكرتها الجميلة.
تحت شعار "في القراءة قوة"، شهدت في زيارتي، أخيراً، الدوحة، جانباً من أعمال الحملة الوطنية للقراءة التي أطلقتها مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، بقيادة نائب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للمؤسسة، الشيخة الشابة هند بنت حمد آل ثاني، بهدف العمل على تنشئة جيل قارئ ومحب للكتب، منذ نعومة أظفاره. ومع أن الحملة في بداياتها، إلا أن ما تحقق منها يشي بنجاحها الباهر في أسرع وقت، وبشكلٍ غير مسبوق في الوطن العربي على الأقل.
يكفي أن ترى تلك الحماسة تلتمع في أعين القائمين عليها من الشباب القطري المصرّين على الإتيان بما لم تستطعه الأوائل في زرع ثقافة المطالعة، وسط تحدّياتٍ تفرضها على الجميع هيمنة الواقع التكنولوجي، وإغراءاته الهائلة للصغار والكبار، بعيداً عن عالم الورق وغبار المكتبات، لتدرك أنك أمام مشروعٍ مختلف، حي وطموح. والأهم من هذا كله، أنه مشروعٌ منفتح على التجارب والنماذج الفردية والجماعية داخل قطر وخارجها. وقد لمست هذا كله، وأنا أستمع لبعض القائمين على الحملة، في أثناء حضوري واحدةً من جلساتهم، في مبنى مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، وهم يشرحون للحضور تفاصيل الخطة المرسومة أمامهم على الورق، بالرسومات والأرقام والكلمات، كمن يعزف على نوتة موسيقية حماسية، بمنتهى الاستمتاع والإتقان.
أعجبني، مثلاً، التركيز الفعلي على الفئة العمرية المحصورة بين سن ثلاث سنوات وثماني سنوات، لتكون البداية التي يمكن أن تبدأ بها خطة القراءة. والبداية بمثل هذه السن الصغيرة نسبياً خطوة موفقة جداً، ولعلها أهم ما يميز تلك الحملة عن مثيلاتها في بلادٍ أخرى، على الرغم من صعوبتها المتوقعة لأطفالٍ لا يكادون يجيدون مهارة القراءة المحض، وأغلبهم لم يدخل المدرسة بعد. لكنّ ما اطلعت عليه من خطط، يعملون الآن على البدء بتنفيذها، كفيلٌ بتبديد كل الشكوك المبنية على تلك الصعوبات إن نفذت فعلا، لنتأكّد لحظتها أن القراءة قوة بالفعل.