09 نوفمبر 2024
المتنبي وهيلاري "الإخوانية"
صدق المتنبي كثيراً في قوله: لكل داءٍ دواءٌ يُستَطبُّ به/ إلا الحماقةُ أعيَتْ من يُداويها.
يُسعفك هذا البيت الشعري، إذا أردت إيجازاً بشأن الغبطة التي فاضت في جرائد وتلفزاتٍ مصرية عديدة، لفوز دونالد ترامب برئاسة أميركا، لا سيما وأن مبعثها أن المذكور هزم هيلاري كلينتون "الإخونجية"، أي المرشّحة التي دعمت، إبّان كانت وزيرةً للخارجية في بلادها، وصول "الإخوان المسلمين" إلى السلطة في مصر، في غضون الربيع العربي الذي كانت ثورة 25 يناير، في أثنائه، "مؤامرةً أميركية". يُصيبك بضحكٍ كثيرٍ فائضُ الفكاهة، من هذا الطراز وغيره، في البهجة الغزيرة في وسائط إعلامٍ مصريةٍ بعد هزيمة هيلاري، لمّا "صنع ترامب التاريخ"، بتعبير صحيفة الأهرام، لكنه ضحكٌ مشوبٌ بالأسى من فرط مقادير الحماقة التي لا يبدو أنّ في وسع أي دواء أن يجعل صحافةً كهذه تتعافى منها، وهي الصحافة التي بدت كأنها في ليلة "فرح العمدة"، طالما أن الرئيس عبد الفتاح السيسي أول من هنّأ ترامب، في مكالمةٍ هاتفيةٍ. يؤكّد استعصاءَ الشفاء التشفّي الطريف من هيلاري، عندما يُتذكّر طلبُها من السيسي، لمّا التقيا في نيويورك، احترام حقوق الإنسان في مصر، فيما لم يقترف ترامب أمراً كهذا في لقائه السيسي، في نيويورك أيضاً في سبتمبر/ أيلول الماضي، فلم يدسّ أنفه في شؤون مصر السيادية.
يتوازى هذا التخريفُ في جرائد السيسي وتلفزاته وإعلام أجهزته مع حالة ارتياحٍ ظاهرةٍ، عوينت في إعلام بشار الأسد وتصريحات ناسِه، منها قول (النائب!) شريف شحادة، إنه "ينبغي أن نكون متفائلين بحذر". فيما تشاطرت مستشارة الأسد، بثينة شعبان، وقالت إن "الشعب الأميركي بعث رسالةً عظيمةً، ومهمةً للغاية، في العالم أجمع". ولا مدعاة، هنا، للإحالة إلى الانتشاء الإسرائيلي بوصول ترامب إلى البيت الأبيض، فالأنسب أن يُلتَفت إلى صنفٍ من الحماقة العصيّة على أيّ دواء، تبدّى عند ممانعين جسورين، لم تنطلِ عليهم "مؤامرة" الربيع العربي، مثلنا. مارس هؤلاء مكايدةً مسليةً معنا، نحن "أيتام هيلاري"، أنصار الربيع العربي ومناهضو جرائم الأسد ومناوئو عسف عبد الفتاح السيسي. لسان حالهم يقول إن "مرشّحتنا" سقطت، وهذا مبعث سرورٍ لديهم، طالما أننا صِرنا في كآبةٍ عظيمة، ولا نقدر على كظم غيظنا، بعد هزيمتها، وهي التي كانت قد "اعترفت" صراحةً بنصرتها أصحابنا "الإخوان المسلمين".
لأن الجدال مع الحمقى قد يُحدث سويداءَ في الجوانح، لا مزاج ولا وقت لدينا لمغالبتها، يُختصر الكلام هنا، فنقول: نعم، كنّا نستحسن أن تفوز هيلاري، وأن يخسَر ترامب الذي سيأتي بجون بولتون ونيوت غرينغيتش ورودي جولياني، وغيرهم من صقور الصهاينة الأميركيين (هل يتكفّل بهم حذر شريف شحادة؟). ولا يُغفل هذا الاستحسان ما يحفل به أرشيف المرشحة الخاسرة من بؤسٍ ظاهر في مواقفها وانحيازاتها، وجميعها معادية للقضايا العربية، وفي مقدمتها قضيتا الشعبين السوري والفلسطيني، وهذا نقاش يطول، غير أن الحماقة المستجدّة في منصّات السيسي الإعلامية توفّر، هنا، مناسبةً للتذكير بحماقةٍ أسبق، مارستها المنصّات نفسُها، عندما عمدت إلى تقويل هيلاري ما لم تقله في مذكّراتها "خيارات صعبة" (2014) عن تجربتها وزيرةً للخارجية الأميركية، فقد مورس "تزييفٌ" عجيبٌ لما ذكرته عن "الإخوان" وثورة يناير ومحمد مرسي.
بإيجاز، انتقدت هيلاري كلينتون في كتابها "فشل الإخوان في أن يحكموا بشكلٍ شفّاف وجامع"، وسعي محمد مرسي إلى "تهميش معارضيه السياسيين، بدلاً من أن يبني إجماعاً وطنياً واسعاً"، و"لم يفعل الكثير لتحسين الوضع الاقتصادي". وتوضح أن "25 يناير" فاجأت إدارة الرئيس باراك أوباما وأربكتها، فخشيت من وصول "الإخوان" إلى السلطة، لو انهار نظام حسني مبارك الذي ظلت تعتبره هيلاري نظاماً مستقراً، وحاولت إقناع زملائها في إدارة أوباما بذلك، بينما كان المصريون يهتفون في الميادين بسقوطه. ولم يرد في مذكّراتها ما أذاعه عنها أولئك المصابون بالحماقة التي هجاها المتنبي إن مظاهرات 30 يونيو 2013 دبّرها الجيش المصري. ومن أهم ما كتبته هيلاري إن دفع المصالح الأساسية الأميركية إلى الأمام ربما يستلزم، أحياناً، "العمل مع شركاء نختلف معهم على نحو عميق".. وكتبت أيضاً إنها "سئمت من الثقافة السياسية في مصر التي تحركّها نظرية المؤامرة"... ولكن، هل الحمقى يقرأون؟