08 نوفمبر 2024
انتخاب ترامب وأزمة الديمقراطية الليبرالية
لم يكن انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة مجرد تغييرٍ في أعلى هرم الإدارة الأميركية، أو انعطاف غير متوقع في السياسة الدولية، بقدر ما كان مؤشّراً على أزمة عميقة تتخبط فيها الديمقراطية الليبرالية، وتجعلها غير قادرةٍ على تجديد دينامياتها السوسيولوجية والثقافية، ومواجهة المشكلات والمآزق التي تعترض سيرورتها، وخصوصاً في ما له صلة بصراع الهويات داخل المجتمعات الغربية التي يُفترض أنها تنبني على المواطنة والتعايش بين مختلف فئاتها ومكوناتها.
وعلى الرغم من بعض الاجتهادات التي قدمها الفكر السياسي المعاصر في العقدين الأخيرين، في ما يخصّ ممكنات تطعيم هذه الديمقراطية بأفكارٍ ومقارباتٍ جديدة، تحفّزها على مواكبة المتغيرات المجتمعية الحاصلة، إلا أن ذلك لم يكن ذا تأثيرٍ كبير، في ضوء القبضة التي تمارسها قوى الاقتصاد والأعمال والمؤسسات المالية الكبرى على القرار السياسي. من هنا، لا يبدو مستغرباً أن توصل هذه الديمقراطية المأزومة شخصيةً سياسيةً، مثل ترامب، إلى رئاسة أكبر دولة، وهو المنصب الذي ظل يعكس، عقوداً طويلة، تركيبةً سياسيةً واقتصاديةً تنهض على توازنٍ دقيق بين لوبيات السياسة والاقتصاد والصناعات العسكرية والمال والأعمال والإعلام، وغيرها.
إذا كان كثيرون رأوا في وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، قبل ثمانية أعوام، تحولاً نوعياً باعتباره أول رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة، بما لذلك من دلالاتٍ تصبّ فيما يشبه إعادة الاعتبار للسود الأميركيين. وبالتالي، تعزيز صورة مجتمع أميركي قائم على تعدّد الأعراق والثقافات، فإن انتخاب ترامب الذي جعل من معاداة الأقليات العرقية والدينية أحد ركائز حملته الانتخابية يؤشر على تراجع هذه الصورة، إنْ لم نقل إفلاسها. بهذا، تبدو نتيجة
انتخابات يوم 8 نوفمبر/ تشرين الثاني تعبيراً عن حنينٍ متنام داخل أوساط الأميركيين البيض إلى ''أميركا'' أكثر ارتباطاً بأصولها الأنغلوساكسونية والبروتستانتية، ما يعني أننا بصدد تبلور ''خطاب قومي أميركي'' جديد، يتغذّى على مخاوف فئات واسعة من الأميركيين من تزايد أعداد الأقليات والمهاجرين في الأعوام الأخيرة. وكان المفكر نعوم تشومسكي مصيباً حين اعتبر ظاهرة ترامب إفرازا لظاهرتي الخوف والليبرالية الجديدة التي تعصف بالمجتمع وتقوّض ركائزه، وهو ما أسهم في تشكيل كتلةٍ ناخبة، أنهكتها سياسات العولمة، وباتت مستعدةً لقلب الطاولة على النخبة السياسية التقليدية المرتبطة بجماعات الضغط والمصالح المختلفة، والبحث عن خيار سياسي آخر يستجيب لتطلعاتها الاقتصادية والاجتماعية. وعلى الرغم من مفارقاتٍ طبقيةٍ دالةٍ تنطوي عليها شخصية ترامب ومساره المهني، إلا أنه استطاع بخطابه الشعبوي الفجّ، حتى لا نقول الفاشستي، أن يقنع هذه الكتلة، المكونة، في أغلبها، من الطبقات الوسطى والعمال، بالتصويت له.
يمكن القول إن المظاهرات، في أكثر من مدينة أميركية، عقب إعلان فوز ترامب، لا تنطوي فقط على المفارقات الدالة التي ساهمت في إنتاج هذه الحالة غير المسبوقة في المشهد السياسي الأميركي، بل تعبّر عن الحاجة لمراجعة شاملة للمنظومة الفكرية والسياسية والمؤسساتية للديمقراطيات الغربية، ففوز ترامب يبدو كما لو كان امتداداً طبيعياً ومتوقعاً للوقائع التي مهّدت له، بطريقةٍ أو بأخرى، ونخص بالذكر، هنا، الزلزال الذي أحدثته نتيجة الاستفتاء البريطاني في يونيو/ حزيران المنصرم، والصعود المتنامي لأحزاب اليمين المتطرّف في أوروبا، وتعاظم مشكلة اندماج المهاجرين في المجتمعات الغربية، وذلك كله يعطي هذا الفوز زخماً سياسياً لا يمكن الاستهانة به، في ظل عجز معظم هذه المجتمعات عن إنتاج حلٍّ ثقافيٍّ متوازن لمشكلة الأقليات والمهاجرين، والتي يبدو أنها ستكون العنوان الأبرز لجدليات الصراع الاجتماعي والسياسي في الغرب في العقود المقبلة.
هناك أزمة هوية عميقة، وأسبابها كثيرةٌ ومتشعبة، وليست على صلةٍ فقط بما تعرفه الديمقراطية الليبرالية من تصدّعاتٍ تخص سيرورتها، بل أيضاً بما يحدث في البلدان الأصلية للمهاجرين واللاجئين من حروبٍ وصراعاتٍ تغذّي الإرهاب، وتحوّله إلى أحد موارد العنصرية والكراهية ورفض الآخر، بما يعنيه ذلك، بطبيعة الحال، من تعميق الانقسام المجتمعي والثقافي في الغرب، وهو الانقسام الذي تمثل الطبقات الوسطى أبرز فاعل في الاصطفافات المرتبطة به، بالنظر إلى دورٍ تاريخي لعبته في الاستقرار السياسي والاجتماعي لبلدان الغرب، على امتداد القرن الفائت، فانهيار المعسكر الشرقي ونهاية الحرب الباردة وصعود الرأسمالية الجديدة وهيمنة المؤسسات المالية الدولية، ذلك كله جعل أهمية هذه الطبقات تتراجع في السياسات الاقتصادية والاجتماعية في عدد من هذه البلدان، ما جعل الطريق سالكةً أمام الخطابات الديماغوجية والشعبوية، على اختلاف أنماط تداولها.
وعلى الرغم من بعض الاجتهادات التي قدمها الفكر السياسي المعاصر في العقدين الأخيرين، في ما يخصّ ممكنات تطعيم هذه الديمقراطية بأفكارٍ ومقارباتٍ جديدة، تحفّزها على مواكبة المتغيرات المجتمعية الحاصلة، إلا أن ذلك لم يكن ذا تأثيرٍ كبير، في ضوء القبضة التي تمارسها قوى الاقتصاد والأعمال والمؤسسات المالية الكبرى على القرار السياسي. من هنا، لا يبدو مستغرباً أن توصل هذه الديمقراطية المأزومة شخصيةً سياسيةً، مثل ترامب، إلى رئاسة أكبر دولة، وهو المنصب الذي ظل يعكس، عقوداً طويلة، تركيبةً سياسيةً واقتصاديةً تنهض على توازنٍ دقيق بين لوبيات السياسة والاقتصاد والصناعات العسكرية والمال والأعمال والإعلام، وغيرها.
إذا كان كثيرون رأوا في وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، قبل ثمانية أعوام، تحولاً نوعياً باعتباره أول رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة، بما لذلك من دلالاتٍ تصبّ فيما يشبه إعادة الاعتبار للسود الأميركيين. وبالتالي، تعزيز صورة مجتمع أميركي قائم على تعدّد الأعراق والثقافات، فإن انتخاب ترامب الذي جعل من معاداة الأقليات العرقية والدينية أحد ركائز حملته الانتخابية يؤشر على تراجع هذه الصورة، إنْ لم نقل إفلاسها. بهذا، تبدو نتيجة
يمكن القول إن المظاهرات، في أكثر من مدينة أميركية، عقب إعلان فوز ترامب، لا تنطوي فقط على المفارقات الدالة التي ساهمت في إنتاج هذه الحالة غير المسبوقة في المشهد السياسي الأميركي، بل تعبّر عن الحاجة لمراجعة شاملة للمنظومة الفكرية والسياسية والمؤسساتية للديمقراطيات الغربية، ففوز ترامب يبدو كما لو كان امتداداً طبيعياً ومتوقعاً للوقائع التي مهّدت له، بطريقةٍ أو بأخرى، ونخص بالذكر، هنا، الزلزال الذي أحدثته نتيجة الاستفتاء البريطاني في يونيو/ حزيران المنصرم، والصعود المتنامي لأحزاب اليمين المتطرّف في أوروبا، وتعاظم مشكلة اندماج المهاجرين في المجتمعات الغربية، وذلك كله يعطي هذا الفوز زخماً سياسياً لا يمكن الاستهانة به، في ظل عجز معظم هذه المجتمعات عن إنتاج حلٍّ ثقافيٍّ متوازن لمشكلة الأقليات والمهاجرين، والتي يبدو أنها ستكون العنوان الأبرز لجدليات الصراع الاجتماعي والسياسي في الغرب في العقود المقبلة.
هناك أزمة هوية عميقة، وأسبابها كثيرةٌ ومتشعبة، وليست على صلةٍ فقط بما تعرفه الديمقراطية الليبرالية من تصدّعاتٍ تخص سيرورتها، بل أيضاً بما يحدث في البلدان الأصلية للمهاجرين واللاجئين من حروبٍ وصراعاتٍ تغذّي الإرهاب، وتحوّله إلى أحد موارد العنصرية والكراهية ورفض الآخر، بما يعنيه ذلك، بطبيعة الحال، من تعميق الانقسام المجتمعي والثقافي في الغرب، وهو الانقسام الذي تمثل الطبقات الوسطى أبرز فاعل في الاصطفافات المرتبطة به، بالنظر إلى دورٍ تاريخي لعبته في الاستقرار السياسي والاجتماعي لبلدان الغرب، على امتداد القرن الفائت، فانهيار المعسكر الشرقي ونهاية الحرب الباردة وصعود الرأسمالية الجديدة وهيمنة المؤسسات المالية الدولية، ذلك كله جعل أهمية هذه الطبقات تتراجع في السياسات الاقتصادية والاجتماعية في عدد من هذه البلدان، ما جعل الطريق سالكةً أمام الخطابات الديماغوجية والشعبوية، على اختلاف أنماط تداولها.