07 نوفمبر 2024
جمهورية مصر التلفزيونية
لم يعد هناك معنى لكلمة "الحقيقة" في مصر، فقد اختلطت المعلومات والحقائق بالهلاوس والهستيريا الجماعية التي تملأ الفضاء السياسي والإعلامي، وحتى على مواقع التواصل الاجتماعي التي يعوّل عليها بعضهم لمواجهة التسمّم الذي يملأ الأجواء، إذ جاءت حادثة تنفيذ حكم الإعدام بالمتهم عادل حبارة لتكشف عن أوهام عديدة، نجحت ماكينات الدعاية السوداء في ترسيخها لدى كثيرين، حتى ممن يفترض أنهم ينتمون لثورة يناير، فقد اعتبر كثيرون حبارة مذنباً، لمجرد أن وسائل الإعلام الموالية للنظام قالت هذا، ولم يدر في خلد أحد منهم حقيقة بديهية بسيطة للغاية: أنه لا يوجد أي دليل مادي مقنع على تورّط حبارة بالفعل في قتل الجنود المصريين في سيناء. كل ما هناك هو ما تسمّى "تحرّيات" قام بها ضباط، اعتمدها القضاء المصري من دون تدقيق، وهي تحرّيات جرّبها المصريون وخبروها في قضايا عديدة سابقة، مثل "التحرّيات" التي تقول إن "حماس" قتلت متظاهري ثورة يناير! وإن جماعة الإخوان المسلمين هم من قتلوا مشجعي نادي الزمالك في "مذبحة الدفاع الجوي"، وأن "أمواتاً" اقتحموا السجون في أثناء الثورة وأخرجوا المساجين، وأن المخلوع حسني مبارك ورجاله شرفاء وأبرياء، ولم يرتكبوا أي جرائم يحاسبوا عليها، وغيرها خزعبلاتٌ كثيرة حفلت بها "تحرّيات" الأجهزة الأمنية، واعتمدتها النيابة العامة، واستند إليها القضاة في إصدار أحكام بالإعدام وبالسجن المشدّد على آلاف البشر.
بعد أن اتضح فقر (أو انعدام) الأدلة التي تدين حبارة، باستثناء حقيقة واحدة، هي اعتناقه أفكاراً متشددة لم يثبت أنه طبقها في حياته، لجأت أذرع النظام وصبيانه ولجانه الإلكترونية إلى مسخرةٍ أخرى، وهي إعادة نشر تسجيل صوتي، كان أحد أذرع النظام السياسية والإعلامية قد أذاعه قبل مدة، وزعم أنه لحبارة مع شخص آخر، يعترف فيه من قالوا إنه حبّارة بقتله الجنود، بل ونشرت صحف ووسائل إعلام المكالمة على أنها الدليل الرئيسي والسبب الأساسي في إعدام حبارة، وأنها من قادته إلى حبل المشنقة.
أبسط ما يمكن أن يُقال بشأن هذا التصرّف أننا وصلنا، في مصر، إلى مستوىً رديء للغاية من الكذب والتلفيق والاستهانة بأرواح الناس، فمن الذي يعتمد على تسجيل مجهول لا يعرف أحد
أصله؟ ومنذ متى ومن قال إن المحكمة استندت إلى هذا التسجيل أصلاً في إدانتها حبارة، وقد خلت حيثيات الحكم من أي إشارةٍ إليه، مكتفيةً بالاعتماد على أقوال ضباط الأجهزة الأمنية؟ خصوصاً أن المكالمة المزعومة لا تدل على أنها لحبارة، كما خضعت لعملية مونتاج رديئة، في محاولة بائسة لجعلها مقنعةً لمن يسمعها، فالمحكمة انحازت إلى أجهزة الأمن، واعتمدت روايتها هي فقط في قضية حبارة، واعتبرتها أدلة لا تقبل الشك، ولم تكترث لنفي الأخير تلك الاعترافات، وتأكيده أنه جرى انتزاعها منه تحت التعذيب، وهو تعذيبٌ يجعل أي شخص يعترف بارتكابه أي جريمةٍ يراد له أن يعترف بها، فقط ليتجنب آلام التعذيب الرهيبة، وهو ما أكده محمود حسين، الشاب الذي اعتقل بسبب ارتدائه "تي شيرت" مكتوب عليه "وطن بلا تعذيب"، إذ قال إنه اضطر للاعتراف بحيازته "مولوتوف"، وبحصوله على أموال للاشتراك في المظاهرات، حتى لا يتعرّض للتعذيب.
الاعتماد على الدعاية والأساطير وتكرارها لمحاولة جعلها حقيقةً بديهيةً لا تقبل النقاش كان قد تكرّر مع الرئيس المعزول، محمد مرسي، إذ كرر الإعلام طوال أكثر من ثلاث سنوات أسطورة أن مرسي هرب من السجن، بمساعدة حركة حماس، بعد أن اتصل بقناة الجزيرة بواسطة هاتف متصل بالأقمار الصناعية يوم 28 يناير/ كانون الثاني 2011، لأن شبكات المحمول كانت مقطوعةً في ذلك اليوم. لكن هذه الأسطورة نسفت ببساطة، لأن مرسي خرج من السجن يوم 30 يناير وليس في ذلك اليوم، وكانت شبكات المحمول تعمل بشكل طبيعي، ولم يستخدم مرسي هاتفاً خاصاً ولا يحزنون، لكن الإعلام أصرّ على تكرار تلك الأسطورة، بل وامتلكت الأذرع الإعلامية من الوقاحة ما يجعلها تعيد نشر مكالمة مرسي مع قناة الجزيرة على أنها الدليل الدامغ الذي جعل المحكمة تصدر حكماً عليه بالإعدام! ووجدنا عناوين أخبار من عينة "المكالمة التي قادت مرسي إلى الإعدام"، وهو انحطاط مماثل لما وجدناه مع مكالمة حبارة التي صاغوها بالعنوان السابق نفسه مع استبدال الاسم فقط.
الأخطر والأكثر بؤساً أن القضاة أصبحوا أسرى لمثل تلك الروايات التلفزيونية الدعائية، وهناك فعلاً قضاة كثيرون مؤمنون، تمام الإيمان، أن ثورة يناير مؤامرة أميركية إسرائيلية قطرية
إيرانية حمساوية، وأن "حماس" و"الإخوان" هم من قتلوا المتظاهرين، وأن السيسي اعتقل قائد الأسطول السادس، وأن هيلاري كيلنتون اعترفت، في مذكراتها، أن الولايات المتحدة هي التي صنعت "داعش"، وغيرها من الخرافات والحكايات الكرتونية الهزلية التي حفل بها الخطاب الإعلامي طوال الأعوام الماضية. ولذلك، وجدنا سيلاً من البراءات لرموز مبارك، في وقت يتم التنكيل فيه برموز يناير وشبابها. ولذلك، نستطيع القول إن الإعلام المصري شريكٌ أصيلٌ في كل جرائم نظامي مبارك والسيسي، بعد أن سمّم أجواء المصريين بالشائعات والأوهام وغرسها في عقول الملايين. ولذلك، سيواجه هذا الإعلام وقتاً عصيباً للغاية، عندما تحين ساعة الحساب، والتي أعتقد أنها اقتربت.
بعد أن اتضح فقر (أو انعدام) الأدلة التي تدين حبارة، باستثناء حقيقة واحدة، هي اعتناقه أفكاراً متشددة لم يثبت أنه طبقها في حياته، لجأت أذرع النظام وصبيانه ولجانه الإلكترونية إلى مسخرةٍ أخرى، وهي إعادة نشر تسجيل صوتي، كان أحد أذرع النظام السياسية والإعلامية قد أذاعه قبل مدة، وزعم أنه لحبارة مع شخص آخر، يعترف فيه من قالوا إنه حبّارة بقتله الجنود، بل ونشرت صحف ووسائل إعلام المكالمة على أنها الدليل الرئيسي والسبب الأساسي في إعدام حبارة، وأنها من قادته إلى حبل المشنقة.
أبسط ما يمكن أن يُقال بشأن هذا التصرّف أننا وصلنا، في مصر، إلى مستوىً رديء للغاية من الكذب والتلفيق والاستهانة بأرواح الناس، فمن الذي يعتمد على تسجيل مجهول لا يعرف أحد
الاعتماد على الدعاية والأساطير وتكرارها لمحاولة جعلها حقيقةً بديهيةً لا تقبل النقاش كان قد تكرّر مع الرئيس المعزول، محمد مرسي، إذ كرر الإعلام طوال أكثر من ثلاث سنوات أسطورة أن مرسي هرب من السجن، بمساعدة حركة حماس، بعد أن اتصل بقناة الجزيرة بواسطة هاتف متصل بالأقمار الصناعية يوم 28 يناير/ كانون الثاني 2011، لأن شبكات المحمول كانت مقطوعةً في ذلك اليوم. لكن هذه الأسطورة نسفت ببساطة، لأن مرسي خرج من السجن يوم 30 يناير وليس في ذلك اليوم، وكانت شبكات المحمول تعمل بشكل طبيعي، ولم يستخدم مرسي هاتفاً خاصاً ولا يحزنون، لكن الإعلام أصرّ على تكرار تلك الأسطورة، بل وامتلكت الأذرع الإعلامية من الوقاحة ما يجعلها تعيد نشر مكالمة مرسي مع قناة الجزيرة على أنها الدليل الدامغ الذي جعل المحكمة تصدر حكماً عليه بالإعدام! ووجدنا عناوين أخبار من عينة "المكالمة التي قادت مرسي إلى الإعدام"، وهو انحطاط مماثل لما وجدناه مع مكالمة حبارة التي صاغوها بالعنوان السابق نفسه مع استبدال الاسم فقط.
الأخطر والأكثر بؤساً أن القضاة أصبحوا أسرى لمثل تلك الروايات التلفزيونية الدعائية، وهناك فعلاً قضاة كثيرون مؤمنون، تمام الإيمان، أن ثورة يناير مؤامرة أميركية إسرائيلية قطرية