02 نوفمبر 2024
السعودية ولبنان .. وإيران
منذ استقلال لبنان قبل سبعين عاماً، انتظمت علاقات وثيقة بين هذا البلد والمملكة العربية السعودية. ومع بدء نشوء التكتلات العربية، في أواسط خمسينيات القرن الماضي، حافظ لبنان على علاقاتٍ متوازنة مع كل من مصر الناصرية والسعودية ذات التوجه الإسلامي. وحظي البلدان الكبيران بنفوذ سياسي، رجحت فيه آنذاك كفة التيارات الناصرية، فيما حظيت السعودية الإسلامية بنفوذ لدى اليمين اللبناني، والمقصود به الأحزاب المسيحية، مثل الكتائب والوطنيين الأحرار. ووقع نوع من التعايش في صفوف القوى المؤيدة للقاهرة وتلك المؤيدة للرياض، فكانت رئاسة الحكومة تُسند بالتوالي إلى كل من رشيد كرامي القريب من التيار الناصري وإلى صائب سلام صاحب الهوى العروبي/ السعودي، والذي نال دعماً سعودياً لتشكيل جمعية المقاصد التي تضم مستشفى ومدرسة، وتعتبر من أبرز المؤسسات الخيرية والإنسانية في بيروت. وبينما نشطت، في الستينيات، حرب إعلامية ودبلوماسية مصرية سعودية في لبنان، إلا أن الدولة اللبنانية حافظت على خطها الحيادي الوفاقي بين التيارات العربية.
في سنوات الحرب الطويلة التي بدأت العام 1975، ابتعدت مصر الساداتية عن لبنان، كما ابتعدت السعودية عن مليشيات الحرب، وربطتها علاقة قوية بمنظمة التحرير الفلسطينية، وزعيمها ياسر عرفات. وبقيت الرياض تؤيد الشرعية اللبنانية، ونأت عن الإسهام في التشكيلات المليشياوية. وواقع الحال أنه، في فترة اندلاع الحرب تلك، ومع فورة أسعار النفط، وتراجع مكانة مصر في عهد أنور السادات، كانت السعودية تعزّز بالتدريج نفوذها العربي والإسلامي، وفي منافسةٍ مع الصعود البعثي في العراق وسورية، وصعود القذافي في ليبيا، ونأت الرياض عن الانغماس في الحرب اللبنانية/ الإقليمية التي استمرت حتى أواخر الثمانينيات.
توقفت الحرب بتدخل نشط من الرياض، وباحتكام سائر الفرقاء إلى السعودية، فكان توقيع اتفاق الطائف المحطة الأبرز في إيقاف الحرب المدمرة. وجذبت الفورة الاقتصادية لبنانيين كثيرين للعمل في السعودية، كما في دول خليجية أخرى. وكان لتحويلات المغتربين اللبنانيين إلى ذويهم الفضل في تماسك المجتمع اللبناني الذي دمرت الحرب ممتلكاته وفرص الرزق فيه (ثمة مقولة لا تخلو من مبالغة ومن دلالة أيضاً تفيد بأن نصف الشعب اللبناني المغترب يعيل النصف الباقي في الوطن، ويرفع من مستوى حياته!). وقد بدت السعودية، كما دول الخليج، ومثلما هي عليه الأميركيتان وكندا وأستراليا، رئة ثالثة، يتنفس منها اللبناني في سنوات الحرب وما بعدها. خلافاً لصورة إيران، مثلاً، في الوعي العام اللبناني التي يمكن اختزالها بأنها الجهة التي سلّحت حزب الله، وتحاول أن تجعل من مستوى تسليح هذا الحزب أعلى من مستوى تسليح الجيش اللبناني. وقد أدركت السعودية، مثل دول إقليمية أخرى، أهمية دعم المؤسسة العسكرية والأمنية الشرعية اللبنانية، من أجل أن تتمكّن هذه المؤسسة نظرياً، وإنْ أرادت، من بسط سلطتها على الأراضي اللبنانية، ومن أجل أن يتحرّر القرار اللبناني من أي ارتهان للخارج. ومعلوم أنه، خلال سنوات العقد الأخير، حاولت طهران، باستماتة، تقديم عروض مغرية لتسليح الجيش اللبناني، لكن الدولة رفضت هذه العروض، لما تنطوي عليه من أهداف سياسية مكشوفة، بحيث تصبح طهران المورد الرئيس لسلاح الجيش اللبناني وحزب الله سواء بسواء (!).
وقد جاءت المنحة السعودية السخية (ثلاثة مليارات دولار) لتسليح الجيش والقوى الأمنية
بمعدات وتجهيزات وأسلحة فرنسية، جاءت في ذروة استعراض حزب الله قوته وتدخله ضد الشعب السوري، وتهديدات السيد حسن نصرالله باستباحة حدود الدول العربية، والحضور حيث يشاء، وبالحجم العسكري الذي يشاؤه الحزب لنفسه! كما جاءت تلك المنحة، في وقت أسقطت فيه قيادة حزب الله أي اعتبار لوجود الدولة اللبنانية، وولايتها على الأرض والشعب، وذلك بعد سنين من نجاحه في إقامة شبكة اتصالات خاصة به، وإقامة نقاط حدودية مع سورية خاصة به وبتحركاته الحرّة من أي قيدٍ بين البلدين. وقد حافظت الدولة اللبنانية، في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان، على علاقاتها العربية والدولية، ونأت بنفسها عن الأزمة السورية، لكن حزب الله الذي يضع نفسه خارج الدولة وفوقها، ومعه بالتبعية التيار العوني الحر، كان له رأي آخر، وواظب وزير الخارجية العوني، جبران باسيل، على ممالأة إيران، بالضد من رئاستي الحكومة والجمهورية. وبعدئذ، ومنذ عشرين شهراً وأكثر، يُحرم لبنان من انتخاب رئيسٍ للجمهورية، حتى لو كان المرشح ينتمي لفريق 8 آذار، ذلك أن حزب الله قرّر أن شخصاً واحداً فقط يصلح لتقلّد منصب الرئاسة، هو الجنرال ميشال عون، شاءه اللبنانيون أم لم يشاؤوه.
وسط هذه الفوضى السياسية التي تتغذّى من فوضى أمنية، ومن ازدواجية السلاح الشرعي وسلاح الأمر الواقع، وفي ظل العجز عن إجراء انتخابات برلمانية جديدة، بعد انتهاء فترة المجلس الحالي منذ سنتين، ومع الشغور الرئاسي، وممارسة الابتزاز على حكومة تمام سلام من داخلها، وبعد ما بدا من اضطرابٍ في أداء الدولة اللبنانية، نتيجة الضغوط التي تتعرّض لها، جاء قرار سحب المنحة التسليحية، وما تبعه من إجراءات سعودية وخليجية، تتعلق بحظر السفر إلى هذا البلد، وتقليص البعثات الدبلوماسية الخليجية المعتمدة في بيروت، جاء ذلك بمثابة صدمة شديدة، يدرك اللبنانيون أنها ستنعكس على الموارد السياحية، وعلى مشاريع استثمارية خليجية، وعلى استقبال دول خليجية عمالةً لبنانية، وعلى صورة لبنان المهدّد بسيادته واستقلاله، وهو تطورٌ لا سابق له، تماما كما أن التحاق لبنان القسري، ومن وراء ظهر شعبه بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، تطورٌ لا سابق له في تاريخ علاقات لبنان مع العالم الخارجي. ومن شأن هذا التطور أن يفتح أعين لبنانيين على ما يُراد ببلدهم، بتحويله، لا سمح الله، إلى سجن كبير، أو إلى أنقاضٍ تذيع أخبارها، كما الحال لدى حليف حزب الله في دمشق.
المؤلم في الأمر كله أن سواد اللبنانيين، كما الحكومة اللبنانية، بريئون من سوءات الحزب المنتفخ، وأن عواقب القرار وقف التسليح تنعكس، في المدى القصير، سلباً على هؤلاء، بانتظار أن تلقى الشرعية اللبنانية دعماً عربياً وإقليمياً ودولياً ينقذ لبنان من الوصاية، ومصادرة قراره الوطني المستقل.
في سنوات الحرب الطويلة التي بدأت العام 1975، ابتعدت مصر الساداتية عن لبنان، كما ابتعدت السعودية عن مليشيات الحرب، وربطتها علاقة قوية بمنظمة التحرير الفلسطينية، وزعيمها ياسر عرفات. وبقيت الرياض تؤيد الشرعية اللبنانية، ونأت عن الإسهام في التشكيلات المليشياوية. وواقع الحال أنه، في فترة اندلاع الحرب تلك، ومع فورة أسعار النفط، وتراجع مكانة مصر في عهد أنور السادات، كانت السعودية تعزّز بالتدريج نفوذها العربي والإسلامي، وفي منافسةٍ مع الصعود البعثي في العراق وسورية، وصعود القذافي في ليبيا، ونأت الرياض عن الانغماس في الحرب اللبنانية/ الإقليمية التي استمرت حتى أواخر الثمانينيات.
توقفت الحرب بتدخل نشط من الرياض، وباحتكام سائر الفرقاء إلى السعودية، فكان توقيع اتفاق الطائف المحطة الأبرز في إيقاف الحرب المدمرة. وجذبت الفورة الاقتصادية لبنانيين كثيرين للعمل في السعودية، كما في دول خليجية أخرى. وكان لتحويلات المغتربين اللبنانيين إلى ذويهم الفضل في تماسك المجتمع اللبناني الذي دمرت الحرب ممتلكاته وفرص الرزق فيه (ثمة مقولة لا تخلو من مبالغة ومن دلالة أيضاً تفيد بأن نصف الشعب اللبناني المغترب يعيل النصف الباقي في الوطن، ويرفع من مستوى حياته!). وقد بدت السعودية، كما دول الخليج، ومثلما هي عليه الأميركيتان وكندا وأستراليا، رئة ثالثة، يتنفس منها اللبناني في سنوات الحرب وما بعدها. خلافاً لصورة إيران، مثلاً، في الوعي العام اللبناني التي يمكن اختزالها بأنها الجهة التي سلّحت حزب الله، وتحاول أن تجعل من مستوى تسليح هذا الحزب أعلى من مستوى تسليح الجيش اللبناني. وقد أدركت السعودية، مثل دول إقليمية أخرى، أهمية دعم المؤسسة العسكرية والأمنية الشرعية اللبنانية، من أجل أن تتمكّن هذه المؤسسة نظرياً، وإنْ أرادت، من بسط سلطتها على الأراضي اللبنانية، ومن أجل أن يتحرّر القرار اللبناني من أي ارتهان للخارج. ومعلوم أنه، خلال سنوات العقد الأخير، حاولت طهران، باستماتة، تقديم عروض مغرية لتسليح الجيش اللبناني، لكن الدولة رفضت هذه العروض، لما تنطوي عليه من أهداف سياسية مكشوفة، بحيث تصبح طهران المورد الرئيس لسلاح الجيش اللبناني وحزب الله سواء بسواء (!).
وقد جاءت المنحة السعودية السخية (ثلاثة مليارات دولار) لتسليح الجيش والقوى الأمنية
وسط هذه الفوضى السياسية التي تتغذّى من فوضى أمنية، ومن ازدواجية السلاح الشرعي وسلاح الأمر الواقع، وفي ظل العجز عن إجراء انتخابات برلمانية جديدة، بعد انتهاء فترة المجلس الحالي منذ سنتين، ومع الشغور الرئاسي، وممارسة الابتزاز على حكومة تمام سلام من داخلها، وبعد ما بدا من اضطرابٍ في أداء الدولة اللبنانية، نتيجة الضغوط التي تتعرّض لها، جاء قرار سحب المنحة التسليحية، وما تبعه من إجراءات سعودية وخليجية، تتعلق بحظر السفر إلى هذا البلد، وتقليص البعثات الدبلوماسية الخليجية المعتمدة في بيروت، جاء ذلك بمثابة صدمة شديدة، يدرك اللبنانيون أنها ستنعكس على الموارد السياحية، وعلى مشاريع استثمارية خليجية، وعلى استقبال دول خليجية عمالةً لبنانية، وعلى صورة لبنان المهدّد بسيادته واستقلاله، وهو تطورٌ لا سابق له، تماما كما أن التحاق لبنان القسري، ومن وراء ظهر شعبه بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، تطورٌ لا سابق له في تاريخ علاقات لبنان مع العالم الخارجي. ومن شأن هذا التطور أن يفتح أعين لبنانيين على ما يُراد ببلدهم، بتحويله، لا سمح الله، إلى سجن كبير، أو إلى أنقاضٍ تذيع أخبارها، كما الحال لدى حليف حزب الله في دمشق.
المؤلم في الأمر كله أن سواد اللبنانيين، كما الحكومة اللبنانية، بريئون من سوءات الحزب المنتفخ، وأن عواقب القرار وقف التسليح تنعكس، في المدى القصير، سلباً على هؤلاء، بانتظار أن تلقى الشرعية اللبنانية دعماً عربياً وإقليمياً ودولياً ينقذ لبنان من الوصاية، ومصادرة قراره الوطني المستقل.