04 نوفمبر 2024
منطقة عصية على الانتقال الديمقراطي في تونس
تحت وطأة التحرّش بالمدافعين عن حقوق المساجين، ومناهضي التعذيب خصوصاً، أصبحت إثارة التجاوزات التي يتعرّض لها في تونس الأشخاص في مراكز الإيقاف والمؤسسات السجنية، وحتى غيرها، تهمة يستحق عليها "المشتبه فيهم" من مناضلي حقوق الإنسان أطناناً من الشتائم والسخرية، تبدأ بتهمة الاستقواء بالأجنبي، وتصل إلى حد تبييض الإرهاب. لذلك، تسارع عدة أقلام وأصوات إعلامية، لم نر أي نضال لها، أيام الاستبداد، بتصنيف الحقوقيين ضمن هذا الرهط. يحدث، للأسف، ذلك تحت ما يشبه التواطؤ المجتمعي، تحت مفاعيل الخوف من الإرهاب والحشد الإعلامي الأهوج. يسخر بعضهم، ويقول لهؤلاء الحقوقيين: ماذا تريدون أن يفعل الأمن بهم، أيستقبلهم بالأحضان في نزل خمس نجوم؟
ترهب مثل هذه الحجج مناضلي حقوق الإنسان، حتى باتوا يخشون من مجرد إبداء الرأي، على غرار بيانات الاستياء. يعود الأمر، في اعتقادي، إلى خلط متعمد بين الانتصار لحقوق الإنسان، في شموليتها وكونيتها وعدم الفرز القائم على طبيعة التهمة من جهة، ومساندة الإرهابيين التي لا أعتقد أن مناضلاً حقوقياً واحداً، يجوز لنفسه أن يكون كذلك، وهو خلط متعمد، يخفي رغبة دفينة لدى بعضهم في العودة إلى مربع انطلاق الدولة الأمنية، فالإرهاب اللعين يقدم لهم هديةً مثلى، عليهم أن يُحسنوا توظيفها.
الفرز المسبق بين ضحايا التعذيب وسوء المعاملة كان قد أباح كل التجاوزات، وحتى الجرائم البشعة، وقدم لها المشروعية، في غياب أي مساندةٍ أخلاقيةٍ، من أوسع الفئات الاجتماعية. كان اليسار في الستينات، والإسلاميون في الثمانينات، ضحايا لمثل تلك الآلة. وباسم الفرز نفسه عُزلوا في معاناتهم، فكأن منظومة حقوق الإنسان لا تشملهم. هذا الخلط المتعمد بين إدانة الإرهاب، باعتباره جريمة بشعة، تحتاج عقوبة تتناسب معها، من جهة، واستباحة تعذيب الضحايا، من جهة ثانية، ينتج اتساع دائرة الفئات التي ستفرمها الآلة قادماً.
يحدث هذا في دستورٍ جديدٍ، يمنحنا جرعاتٍ قصوى من الجرأة والضمانات في فضح ممارسات التعذيب، حين ينص، في فصله الثالث والعشرين، على أن "تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المعنوي والمادي. وألا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم". ولكن، رأينا كيف تم خرق هذا الفصل، تحت تصفيق الناس في هستيريا آكلي البشر.
كما أن من شأن النتائج التي انتهى إليها الفريق الوطني لرصد أماكن الاحتجاز، في الأيام
الأخيرة، أن تقرع جرس الإنذار، فالتقرير الذي قدمته هذه المجموعة، والممتد على أكثر من ثلاث سنوات، والذي شمل أكثر من 12 مركز إيقاف وإقامة سجنية وغيرها، على الرغم من تلكؤ بعض الوزارات، يمثل وثيقة دامغةً، فلا أحد يستطيع اتهامه بالمحاباة، أو الانحياز، إذ يجمع قرابة 40 مناضلاً، ينتمون إلى أكثر من عشر جمعيات حقوقية، معنية بشكل مباشر بقضايا حقوق الإنسان ومناهضة التعذيب، في مقدمتها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وذلك ما يسحب من بعضهم إمكانية تشغيل التهمة الجاهزة، وهي "التوظيفات الحزبية". والأرجح، عندنا، أن هذا التقرير سيشكّل أرضية عمل للهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب التي انتخبها، أخيراً، نواب المجلس. تستفحل ممارسات سوء المعاملة والتعذيب في تلك الأماكن القصية، حيث لا أحد يعلم، ولا أحد يرى. من لحظة الإيقاف حتى، ولو كان المنزل أو الطريق، إلى لحظات التحقيق والسجن. كما أن تلك التجاوزات تشمل كل أصناف الموقوفين، بدءاً من سجناء الحق العام، مروراً بالجنود وموقوفي حالات التشرد وأطفال الشوارع، وضحايا تجارة الدعارة والهجرة السّرية، وصولاً إلى متهمي الجرائم الإرهابية.
ربما، هناك فرق بين التعذيب زمن الاستبداد وحالياً. كان يتم بأمر وتشفٍّ وتتبع من هرم السلطة. وفي حالاتٍ عديدة، ربما أشرف عليها الرئيس المخلوع بشكل مباشر، حسب شهادات بعض ضحاياه. ولكن، فيما نعلم، هذه الحالة منتفية منذ الثورة، غير أن شكوكاً تراودنا، مع ذلك، في أن جهاز الأمن تعافى من ذلك الوباء، ذلك أن إصلاحاً حقيقياً فيه لم يحدث بعد، فكأن هذا الأمر غير ضروري، أو هو على الأقل ليس من أولويات الدولة، وذلك ما يشكل تواطؤاً موضوعياً، ويفسّر تنامي تكرّر الاعتداء على المواطنين، وبشكل علني وسافر، يصل إلى حد التبجح أحياناً. تكرّرت، في الأسابيع القليلة الفارطة، مثل هذه الحالات: اعتداء أمنيين على سائقي حافلتين، أحدهم باستعمال السلاح في قفصة ومنزل بورقيبة، ثم اعتداء على لاعب نادي إحدى الفرق الرياضية، في مركز أمن في الضاحية الجنوبية للعاصمة .. إلخ.
وقد وثق فريق عدة وقائع، وقدم دليلاً للإجراءات مهماً في مقاومة التعذيب وسوء المعاملة، واختار لذلك عنواناً طريفاً ودالاً، هو "التعذيب ليس ثقافة". ولكن، ينتابنا أمام مثل هده الحالة شعورٌ بأننا ننجز انتقالاً ديمقراطياً من دون ديمقراطية، أو بصفة أدق من دون ثقافة ديمقراطية. هناك حالة من التعايش، تفرض، في أحسن الحالات، بين السياسيين التونسيين، مجرد قيم حسن الجوار.
ترهب مثل هذه الحجج مناضلي حقوق الإنسان، حتى باتوا يخشون من مجرد إبداء الرأي، على غرار بيانات الاستياء. يعود الأمر، في اعتقادي، إلى خلط متعمد بين الانتصار لحقوق الإنسان، في شموليتها وكونيتها وعدم الفرز القائم على طبيعة التهمة من جهة، ومساندة الإرهابيين التي لا أعتقد أن مناضلاً حقوقياً واحداً، يجوز لنفسه أن يكون كذلك، وهو خلط متعمد، يخفي رغبة دفينة لدى بعضهم في العودة إلى مربع انطلاق الدولة الأمنية، فالإرهاب اللعين يقدم لهم هديةً مثلى، عليهم أن يُحسنوا توظيفها.
الفرز المسبق بين ضحايا التعذيب وسوء المعاملة كان قد أباح كل التجاوزات، وحتى الجرائم البشعة، وقدم لها المشروعية، في غياب أي مساندةٍ أخلاقيةٍ، من أوسع الفئات الاجتماعية. كان اليسار في الستينات، والإسلاميون في الثمانينات، ضحايا لمثل تلك الآلة. وباسم الفرز نفسه عُزلوا في معاناتهم، فكأن منظومة حقوق الإنسان لا تشملهم. هذا الخلط المتعمد بين إدانة الإرهاب، باعتباره جريمة بشعة، تحتاج عقوبة تتناسب معها، من جهة، واستباحة تعذيب الضحايا، من جهة ثانية، ينتج اتساع دائرة الفئات التي ستفرمها الآلة قادماً.
يحدث هذا في دستورٍ جديدٍ، يمنحنا جرعاتٍ قصوى من الجرأة والضمانات في فضح ممارسات التعذيب، حين ينص، في فصله الثالث والعشرين، على أن "تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المعنوي والمادي. وألا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم". ولكن، رأينا كيف تم خرق هذا الفصل، تحت تصفيق الناس في هستيريا آكلي البشر.
كما أن من شأن النتائج التي انتهى إليها الفريق الوطني لرصد أماكن الاحتجاز، في الأيام
ربما، هناك فرق بين التعذيب زمن الاستبداد وحالياً. كان يتم بأمر وتشفٍّ وتتبع من هرم السلطة. وفي حالاتٍ عديدة، ربما أشرف عليها الرئيس المخلوع بشكل مباشر، حسب شهادات بعض ضحاياه. ولكن، فيما نعلم، هذه الحالة منتفية منذ الثورة، غير أن شكوكاً تراودنا، مع ذلك، في أن جهاز الأمن تعافى من ذلك الوباء، ذلك أن إصلاحاً حقيقياً فيه لم يحدث بعد، فكأن هذا الأمر غير ضروري، أو هو على الأقل ليس من أولويات الدولة، وذلك ما يشكل تواطؤاً موضوعياً، ويفسّر تنامي تكرّر الاعتداء على المواطنين، وبشكل علني وسافر، يصل إلى حد التبجح أحياناً. تكرّرت، في الأسابيع القليلة الفارطة، مثل هذه الحالات: اعتداء أمنيين على سائقي حافلتين، أحدهم باستعمال السلاح في قفصة ومنزل بورقيبة، ثم اعتداء على لاعب نادي إحدى الفرق الرياضية، في مركز أمن في الضاحية الجنوبية للعاصمة .. إلخ.
وقد وثق فريق عدة وقائع، وقدم دليلاً للإجراءات مهماً في مقاومة التعذيب وسوء المعاملة، واختار لذلك عنواناً طريفاً ودالاً، هو "التعذيب ليس ثقافة". ولكن، ينتابنا أمام مثل هده الحالة شعورٌ بأننا ننجز انتقالاً ديمقراطياً من دون ديمقراطية، أو بصفة أدق من دون ثقافة ديمقراطية. هناك حالة من التعايش، تفرض، في أحسن الحالات، بين السياسيين التونسيين، مجرد قيم حسن الجوار.