09 نوفمبر 2024
من "الرابع" إلى "الجلاء"... ضاع استقلال سورية
قبل السابع عشر من أبريل/ نيسان 1946، كان لدينا أيضاً ما نحتفل به في سورية، فنحن استمرار لحياةٍ ضاربةٍ في عمق التاريخ، نحمل في جيناتنا إرث شعوبٍ عديدةٍ، عاشت فوق هذه الأرض المنكوبة اليوم، وأقامت عليها ممالكها ومنجزها الحضاري، ووقع التلاقح الثقافي على مرّ العصور الغابرة بضرورات الحياة حيناً، وبسلطة الأقوى حيناً آخر. لكن، بقيت جذوة مطمورة تحت رماد العصور تتقد كلما مرّ عليها نسيم، فتتوهج فرحاً بعودة الحياة أو قيامتها من قلب الظلمات.
تنوّعت أشكال التعبير عن الفرح بالقيامة أو عودة الحياة التي يعبّر عنها الربيع ببلاغة طبيعية باهرة ومذهلة، وأخذت تسمياتٍ متنوعةً بتنوع الجغرافيا السورية والتاريخ السوري، ومنها ما حمل هوية قوميةً محدّدةً، تعيش فوق هذا التراب. تنتمي كل هذه المناسبات أو الأعياد إلى فصل الربيع. فمثلما هناك رأس السنة الآشورية، وهناك عيد النوروز، هناك أيضاً في الساحل السوري عيد الرابع، أو الزهورية، أو عيد أم الزلف، هو عيد "الأم الكبرى" عشتار، ربّة الطبيعة، والخصوبة، وهي التي تمنح الألق والازدهار للطبيعة في هذا الوقت من العام، بعد فترة من الموات والسبات في فصل الشتاء، وتشترك معها بعض المناطق في سورية ولبنان أيضاً. والرابع بمطلق التسمية يشير إلى الرابع من إبريل/ نيسان، بحسب التقويم الشرقي الموافق للسابع عشر منه بحسب التقويم الغربي.
هذا العيد جزء من ثقافة شعوب المنطقة ما قبل الإسلام، والتي استمرّت ضمن احتفالية طقسيّة، تمجّد الربيع أو الخصب والانبعاث أو الحب. أما طقوس الاحتفال، فأهم ما يميزها الروح الجماعية. كان يجتمع أبناء القرى بعد اتفاق على إقامة "الرابع" في مكانٍ يحدّد وفق مساحته الفسيحة، ليستوعب الأعداد الكبيرة التي ستقصده، وقد كانت البيادر إحدى أهم هذه المواقع، إضافة إلى جانب المقامات الدينية، حيث الأشجار الكثيفة التي تظلل المكان، فينتشر بجانبها الباعة الجوالون، ولم تعد قصراً على أبناء الريف، فقد أصبح سكان المدن يشاركون فيها. تعقد حلقات الدبكة، وتصدح الحناجر بالأغاني الشعبية، وأهمها "الدلعونا"، و"أم الزلف" التي تقول الحكاية، كما أوردها الباحث التراثي حسن إسماعيل، إنها ترمز إلى الإلهة عشتار، بعد أن يلبسوها ثوباً مزركشاً يحاكي الربيع، فكلمة زلفى في قاموس المعاني تعني، في أحد مرادفاتها، الروضة وهي المكان المعشب، وفي الآرامية زلف هو الثوب المزركش.
كانت هذه المناسبات العارمة بالفرح والروح الجماعية مناسبةً يلتقي فيها الناس، وقد تتقد شرارة
حب بين شاب وصبية، يذهب بعدها أهله لطلب يدها، حتى إن بعض الشباب كانوا يحضرون بزيهم العسكري لمّا كان لهذا الزي من مكانةٍ اجتماعيةٍ وفتنة تغوي الصبايا، إلاّ أن روح الهزيمة في نفوس الناس بعد حرب 1967 قلّصت الاحتفالية، وطوت الزي العسكري، ليستبدله الشباب بلباسهم الاعتيادي. لكن زخم الاحتفالية لم يخمد بشكل باتر إلاّ بعد أحداث الثمانينات والحالة الأمنية التي حشرت البلاد فيها بعد المواجهات العسكرية بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين. وشيئاً فشيئاً، تراجعت الأعياد الطقسية من هذا النوع إلى الظل، لتحلّ معها الاحتفاليات الحكومية التي كانت تقيمها الدولة كمهرجانات متنوعة في المناطق السورية، مثل المحبة في اللاذقية، والمدن المنسية في إدلب، وتدمر، وغيرها كثير، تتولى الجهات الرسمية فيه تنظيم الاحتفاليات واستدعاء مغنين ومطربين، يحيون الحفلات على مسارح مغلقة، أو في الهواء الطلق، حيث يتحول الجمهور إلى متلقٍّ، يبدو الحضور ككتلة بشرية، مجالها الوحيد للحركة هو الفضاء فوقها، فترتفع الأيدي، كما لو أنها تستنجد بالسماء، وتتمايل الكتلة البشرية يميناً ويساراً.
أما مهرجان الربيع في حماة، فكان يمتد بين الثامن عشر من هذا الشهر وحتى الثالث من مايو/ أيار، وقد احتفل به في العام 1935 برعاية حزب الكتلة الوطنية، ثم توقف في 1939 بسبب الحرب العالمية الثانية وانعكاساتها على منطقتنا، لكن الحكومة السورية أعادت إحياءه بطريقتها منذ 1997، ليتحوّل الشعب من الشكل الفاعل إلى المنفعل، ويتلقى كلّ ما تقدمه له أو تمليه عليه القيادة السياسية، حتى صناعة الفرح صارت تحت إشراف القيادة السياسية (الحكيمة)، ممثلة بحزب البعث قائد الدولة والمجتمع.
بعد أن تحقق جلاء آخر جندي فرنسي عن سورية، في مثل هذا اليوم، صار الاحتفال بعيد الرابع مناسبة شعبية لها جذورها في التاريخ، ولها بعد وطني، يحمل معاني كثيفة الدلالات، تؤجج الحماسة في النفوس المنتمية إلى الأرض، وتحتفي بالحرية التي صنعها أبطال وطنيون، قادوا ثورات متزامنة ضد الاحتلال الفرنسي، وصار الاحتفال احتفالين.
لكن هذا النعيم لم يدم طويلاً، تتالت الهزائم والخيبات، وخبا الشعور الذاتي بالجدوى والفاعلية، وسكنت النفوس حالة من الخذلان، أخذت تنمو وتتفاعل مع تحوّل المجتمع إلى مجموعةٍ بشريةٍ منقادة، يدير شؤونها نظام قمعي أوهن كل أشكال الحافز لدى المواطنين، حتى فقد الفرد معاني الأشياء، وأهمها معنى كلمة مواطن. كانت المشكلات المجتمعية تكبر وتضرب جذورها الجبارة في بنية المجتمع، تحت ظل الظلم والاستغلال والفساد والقبضة الأمنية الجبارة، وكم الأفواه وحرمان الشعب من قول كلمته، والتعبير عن رغباته والمشاركة في القرارات التي تتعلق بمصيره، والشروخ بدأت تتعمق في بنيان المجتمع، حتى صار الأفراد يبحثون عن ملاذاتٍ أخرى، توفر لهم الحد اللازم من الإحساس بالأمان، أمام غربة رهيبة عن واقعهم، حتى وصلت سورية إلى حالةٍ من النكوص الاجتماعي، والتصنيف الهوياتي، والخطابات التراثية، إلى أن انفجر الوضع، وانتفض الشعب ضد أوضاعه، فصودرت الثورة، وتحولت إلى جهاد الطوائف بعضها ضد بعض، في حربٍ مقدسةٍ، ترعاها جهات ممثلة لقوى سياسية وإقليمية وعالمية. ولم يكن لهذه القوى الأصولية المتطرفة أن تكبر وتنمو وتصبح صاحبة نفوذ في الواقع، لولا أن كانت قد توفرت لها تربة خصبة من تفكك اجتماعي وتراجع في كفاءة التعليم، وترهّل في أجهزة الدولة وإداراتها وركود في ضرورة التحديث، وازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وظهور شريحة من الرأسماليين المستفيدين من الفساد والمتحالفين مع النظام، أو برعايته، كل هذا مواكب لدعم خارجي في العقود الماضية للحركات الأصولية وتكريس أفكارها.
صار من البديهي طرح سؤال: هل الجلاء هو الاستقلال؟ إذا كان الاستقلال يعني حق الدولة في أن تمارس بنفسها مجموع صلاحياتها الداخلية والخارجية، بدون تبعية لدولة أخرى، أو لسلطة دولية، مع وجوب مراعاة القانون الدولي، واحترام التزاماتها بالاتفاقيات الدولية، فهل من المنطقي تبديل عيد الجلاء بعيد الاستقلال في سورية؟ أم صار علينا المطالبة بالعيدين، طالما هناك وجود لمقاتلين أجانب فوق أرضنا، وهناك وجود لجيوش أيضاً، وهناك تدخلات كثيرة في قراراتنا. صار يلزم سورية عيد الجلاء والاستقلال، لتعود إليها أعيادها، مثل عيد الرابع الساحلي والربيع الحموي.
تنوّعت أشكال التعبير عن الفرح بالقيامة أو عودة الحياة التي يعبّر عنها الربيع ببلاغة طبيعية باهرة ومذهلة، وأخذت تسمياتٍ متنوعةً بتنوع الجغرافيا السورية والتاريخ السوري، ومنها ما حمل هوية قوميةً محدّدةً، تعيش فوق هذا التراب. تنتمي كل هذه المناسبات أو الأعياد إلى فصل الربيع. فمثلما هناك رأس السنة الآشورية، وهناك عيد النوروز، هناك أيضاً في الساحل السوري عيد الرابع، أو الزهورية، أو عيد أم الزلف، هو عيد "الأم الكبرى" عشتار، ربّة الطبيعة، والخصوبة، وهي التي تمنح الألق والازدهار للطبيعة في هذا الوقت من العام، بعد فترة من الموات والسبات في فصل الشتاء، وتشترك معها بعض المناطق في سورية ولبنان أيضاً. والرابع بمطلق التسمية يشير إلى الرابع من إبريل/ نيسان، بحسب التقويم الشرقي الموافق للسابع عشر منه بحسب التقويم الغربي.
هذا العيد جزء من ثقافة شعوب المنطقة ما قبل الإسلام، والتي استمرّت ضمن احتفالية طقسيّة، تمجّد الربيع أو الخصب والانبعاث أو الحب. أما طقوس الاحتفال، فأهم ما يميزها الروح الجماعية. كان يجتمع أبناء القرى بعد اتفاق على إقامة "الرابع" في مكانٍ يحدّد وفق مساحته الفسيحة، ليستوعب الأعداد الكبيرة التي ستقصده، وقد كانت البيادر إحدى أهم هذه المواقع، إضافة إلى جانب المقامات الدينية، حيث الأشجار الكثيفة التي تظلل المكان، فينتشر بجانبها الباعة الجوالون، ولم تعد قصراً على أبناء الريف، فقد أصبح سكان المدن يشاركون فيها. تعقد حلقات الدبكة، وتصدح الحناجر بالأغاني الشعبية، وأهمها "الدلعونا"، و"أم الزلف" التي تقول الحكاية، كما أوردها الباحث التراثي حسن إسماعيل، إنها ترمز إلى الإلهة عشتار، بعد أن يلبسوها ثوباً مزركشاً يحاكي الربيع، فكلمة زلفى في قاموس المعاني تعني، في أحد مرادفاتها، الروضة وهي المكان المعشب، وفي الآرامية زلف هو الثوب المزركش.
كانت هذه المناسبات العارمة بالفرح والروح الجماعية مناسبةً يلتقي فيها الناس، وقد تتقد شرارة
أما مهرجان الربيع في حماة، فكان يمتد بين الثامن عشر من هذا الشهر وحتى الثالث من مايو/ أيار، وقد احتفل به في العام 1935 برعاية حزب الكتلة الوطنية، ثم توقف في 1939 بسبب الحرب العالمية الثانية وانعكاساتها على منطقتنا، لكن الحكومة السورية أعادت إحياءه بطريقتها منذ 1997، ليتحوّل الشعب من الشكل الفاعل إلى المنفعل، ويتلقى كلّ ما تقدمه له أو تمليه عليه القيادة السياسية، حتى صناعة الفرح صارت تحت إشراف القيادة السياسية (الحكيمة)، ممثلة بحزب البعث قائد الدولة والمجتمع.
بعد أن تحقق جلاء آخر جندي فرنسي عن سورية، في مثل هذا اليوم، صار الاحتفال بعيد الرابع مناسبة شعبية لها جذورها في التاريخ، ولها بعد وطني، يحمل معاني كثيفة الدلالات، تؤجج الحماسة في النفوس المنتمية إلى الأرض، وتحتفي بالحرية التي صنعها أبطال وطنيون، قادوا ثورات متزامنة ضد الاحتلال الفرنسي، وصار الاحتفال احتفالين.
لكن هذا النعيم لم يدم طويلاً، تتالت الهزائم والخيبات، وخبا الشعور الذاتي بالجدوى والفاعلية، وسكنت النفوس حالة من الخذلان، أخذت تنمو وتتفاعل مع تحوّل المجتمع إلى مجموعةٍ بشريةٍ منقادة، يدير شؤونها نظام قمعي أوهن كل أشكال الحافز لدى المواطنين، حتى فقد الفرد معاني الأشياء، وأهمها معنى كلمة مواطن. كانت المشكلات المجتمعية تكبر وتضرب جذورها الجبارة في بنية المجتمع، تحت ظل الظلم والاستغلال والفساد والقبضة الأمنية الجبارة، وكم الأفواه وحرمان الشعب من قول كلمته، والتعبير عن رغباته والمشاركة في القرارات التي تتعلق بمصيره، والشروخ بدأت تتعمق في بنيان المجتمع، حتى صار الأفراد يبحثون عن ملاذاتٍ أخرى، توفر لهم الحد اللازم من الإحساس بالأمان، أمام غربة رهيبة عن واقعهم، حتى وصلت سورية إلى حالةٍ من النكوص الاجتماعي، والتصنيف الهوياتي، والخطابات التراثية، إلى أن انفجر الوضع، وانتفض الشعب ضد أوضاعه، فصودرت الثورة، وتحولت إلى جهاد الطوائف بعضها ضد بعض، في حربٍ مقدسةٍ، ترعاها جهات ممثلة لقوى سياسية وإقليمية وعالمية. ولم يكن لهذه القوى الأصولية المتطرفة أن تكبر وتنمو وتصبح صاحبة نفوذ في الواقع، لولا أن كانت قد توفرت لها تربة خصبة من تفكك اجتماعي وتراجع في كفاءة التعليم، وترهّل في أجهزة الدولة وإداراتها وركود في ضرورة التحديث، وازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وظهور شريحة من الرأسماليين المستفيدين من الفساد والمتحالفين مع النظام، أو برعايته، كل هذا مواكب لدعم خارجي في العقود الماضية للحركات الأصولية وتكريس أفكارها.
صار من البديهي طرح سؤال: هل الجلاء هو الاستقلال؟ إذا كان الاستقلال يعني حق الدولة في أن تمارس بنفسها مجموع صلاحياتها الداخلية والخارجية، بدون تبعية لدولة أخرى، أو لسلطة دولية، مع وجوب مراعاة القانون الدولي، واحترام التزاماتها بالاتفاقيات الدولية، فهل من المنطقي تبديل عيد الجلاء بعيد الاستقلال في سورية؟ أم صار علينا المطالبة بالعيدين، طالما هناك وجود لمقاتلين أجانب فوق أرضنا، وهناك وجود لجيوش أيضاً، وهناك تدخلات كثيرة في قراراتنا. صار يلزم سورية عيد الجلاء والاستقلال، لتعود إليها أعيادها، مثل عيد الرابع الساحلي والربيع الحموي.
دلالات
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024