07 أكتوبر 2024
"ساق البامبو" تلفزيونياً
لعل الوقت ما زال مبكّراً للحديث حول مسلسل "ساق البامبو" المعروض حالياً على عدد من المحطات التلفزيونية العربية، وهو المأخوذ عن الرواية الحائزة على جائزة بوكر العربية عام 2013، والمعادة طباعتها 23 مرة، والمترجمة إلى عدة لغاتٍ أجنبية، للروائي الكويتي، سعود السنعوسي. وقد حقّقت الرواية، حال صدورها، انتشاراً غير مسبوق، وثبتت اسم السنعوسي واحداً من أبرز كتاب الرواية في العالم العربي. والمعروف أن روايته "ساق البامبو" حازت تقدير النقاد والقراء. تدور أحداث القصة المؤثرة بين الكويت والفيليبين، ويتنقل سعود برشاقةٍ بين العالميْن، فيسرد حكاية جوزفين الفتاة الفيليبينية الجميلة والفقيرة التي ذهبت إلى الكويت، سعياً إلى رزقٍ يقيها شرّ العمل في البغاء. لم يكن النص مجرّد سردٍ كلاسيكي، ينتمي إلى الواقعية الخشنة، بل رصد ذكي لحراك الشخصيات، معتمداً أسلوباً فائق التشويق، من حيث اللغة البسيطة الخالية من أي تعقيدٍ أو فذلكةٍ.
قدّم الروائي صورة مختلفة عن الفيليبين التي لا تثير فضولنا، نحن العرب، سوى باعتبارها أهم مصدر للخادمات المحترفات. شرع سعود نوافذه الروائية لعوالم الفيليبين الحقيقية وشوارعها الخلفية، حيث عوالم الأساطير والتنوّع الديني والتاريخ والواقع السياسي والمعيشي، يسردها على لسان عيسى (خوزيه)، الشخصية المحورية في العمل، وهو ثمرة زواج جوزفين الخاطف بابن العائلة الكويتية العريقة الثرية، حيث انتهى بها الأمر مطرودةً إلى بلادها، محتفظةً بجنينها ملتبس الهوية، مزدوج التاريخ والجغرافيا، ليخرج إلى الدنيا، هجيناً منزوع الانتماء، تائهاً أبدياً بين عالميْن نقيضيْن.
أحداث متنوعة دارت في فضاء حكاية الحب المرفوضة بالمطلق في مجتمعٍ كويتي بورجوازي، محكوم بإرثٍ ثقيلٍ من التقاليد والأعراف التي لا يجوز تخطيها، حتى لو كان الثمن التخلي عن وريث العائلة، وحامل اسمها الذكر المتبقي الوحيد. شخصيات فيليبينية وكويتية غنية ومختلفة، ومحفزة على التأمل، تتحرّك في فضاء الرواية الفسيح الذي يدين بشدة امتهان حقوق البشر، ويهجو، بلا أدنى مداهنة، مظاهر الطبقية في مجتمعاتنا العربية، ويبشّر بقيم المساواة وقبول الآخر، واحترام قناعاته المختلفة، والخروج من الفكر الأحادي الفوقي، النمطي الذي يصرّ على التقوقع حول نفسه، رافضاً الجميع، متمسكاً بوهم التفوق الحضاري والمعرفي في تكرارٍ مؤسفٍ، لنظرية شعب الله المختار.
كما يُسجل لسعود إخلاصه للحقيقة، وتوثيقه مرحلة دقيقة مهمة من تاريخ الكويت، حين تعرّضت للغزو الصدامي الذي خلخل موازين كثيرة، وجرّ المنطقة بأسرها إلى الدمار الشامل. من هنا، ليس مفهوماً عدم إجازة الرقابة في الكويت النص، ما اضطر الشركة المنتجة إلى نقله إلى دبي، على الرغم من أنه يقدّم الشخصيات بموضوعيةٍ تامةٍ، بدون تحيز أو تحامل. على العكس، نجح سعود السنعوسي في تقديم نماذج إيجابية، مثل شخصية راشد الذي قضى شهيداً إبّان الغزو، فبدا مرهف الحساسية، ينحاز للضعفاء، يكره الظلم والقسوة، مناضلاً حقيقياً، منخرطاً في القضايا الوطنية والإنسانية، على الرغم من ثراء عائلته الفاحش الذي يتيح له نمط حياةٍ أقل تعقيداً.
وبعد مشاهدة أول ثلاث حلقات، يمكن الاطمئنان إلى أن المخرج محمد القفاص يمضي بالعمل في الاتجاه الصحيح، من خلال إمكانات الإنتاج الضخمة، واختيار نخبة من ممثلي الخليج المميزين، وفي مقدمتهم المبدعة الكبيرة، سعاد العبد الله، التي تجاوزت في هذا الدور التجسيد إلى التقمص، والاعتناق البارع لشخصية الأم المتسلطة الغاضبة الحزينة، ولكن المحبة الحنون إلى درجة قصوى، لا تملك التعبير عنها إلا بمزيدٍ من التسلط، فيقع المتلقي مختاراً وعن سابق إصرارٍ في الوهم الفني البديع. ويصدُق هذا الأداء الحيوي المتدفق شديد الإقناع لفنانة كبيرة، لها بصمتها المتفردة. ولعل السيناريست رامي عبد الرزاق لم يجد صعوبةً في تحويل النص الروائي الرشيق الحافل بالمشهدية إلى سيناريو سيصل إلى المشاهد بيسر وسهولة.
فرح كثيرون بهذا العمل المدهش الذي حقق أعلى نسبة مشاهدة منذ عرض الحلقة الأولى، وأظن أن للحديث بقية، فثمّة في الفضاء الدرامي الراهن ثلاثون حلقة، من خلطةٍ إبداعية مثيرة، تستدعي مزيداً من الإضاءة.
قدّم الروائي صورة مختلفة عن الفيليبين التي لا تثير فضولنا، نحن العرب، سوى باعتبارها أهم مصدر للخادمات المحترفات. شرع سعود نوافذه الروائية لعوالم الفيليبين الحقيقية وشوارعها الخلفية، حيث عوالم الأساطير والتنوّع الديني والتاريخ والواقع السياسي والمعيشي، يسردها على لسان عيسى (خوزيه)، الشخصية المحورية في العمل، وهو ثمرة زواج جوزفين الخاطف بابن العائلة الكويتية العريقة الثرية، حيث انتهى بها الأمر مطرودةً إلى بلادها، محتفظةً بجنينها ملتبس الهوية، مزدوج التاريخ والجغرافيا، ليخرج إلى الدنيا، هجيناً منزوع الانتماء، تائهاً أبدياً بين عالميْن نقيضيْن.
أحداث متنوعة دارت في فضاء حكاية الحب المرفوضة بالمطلق في مجتمعٍ كويتي بورجوازي، محكوم بإرثٍ ثقيلٍ من التقاليد والأعراف التي لا يجوز تخطيها، حتى لو كان الثمن التخلي عن وريث العائلة، وحامل اسمها الذكر المتبقي الوحيد. شخصيات فيليبينية وكويتية غنية ومختلفة، ومحفزة على التأمل، تتحرّك في فضاء الرواية الفسيح الذي يدين بشدة امتهان حقوق البشر، ويهجو، بلا أدنى مداهنة، مظاهر الطبقية في مجتمعاتنا العربية، ويبشّر بقيم المساواة وقبول الآخر، واحترام قناعاته المختلفة، والخروج من الفكر الأحادي الفوقي، النمطي الذي يصرّ على التقوقع حول نفسه، رافضاً الجميع، متمسكاً بوهم التفوق الحضاري والمعرفي في تكرارٍ مؤسفٍ، لنظرية شعب الله المختار.
كما يُسجل لسعود إخلاصه للحقيقة، وتوثيقه مرحلة دقيقة مهمة من تاريخ الكويت، حين تعرّضت للغزو الصدامي الذي خلخل موازين كثيرة، وجرّ المنطقة بأسرها إلى الدمار الشامل. من هنا، ليس مفهوماً عدم إجازة الرقابة في الكويت النص، ما اضطر الشركة المنتجة إلى نقله إلى دبي، على الرغم من أنه يقدّم الشخصيات بموضوعيةٍ تامةٍ، بدون تحيز أو تحامل. على العكس، نجح سعود السنعوسي في تقديم نماذج إيجابية، مثل شخصية راشد الذي قضى شهيداً إبّان الغزو، فبدا مرهف الحساسية، ينحاز للضعفاء، يكره الظلم والقسوة، مناضلاً حقيقياً، منخرطاً في القضايا الوطنية والإنسانية، على الرغم من ثراء عائلته الفاحش الذي يتيح له نمط حياةٍ أقل تعقيداً.
وبعد مشاهدة أول ثلاث حلقات، يمكن الاطمئنان إلى أن المخرج محمد القفاص يمضي بالعمل في الاتجاه الصحيح، من خلال إمكانات الإنتاج الضخمة، واختيار نخبة من ممثلي الخليج المميزين، وفي مقدمتهم المبدعة الكبيرة، سعاد العبد الله، التي تجاوزت في هذا الدور التجسيد إلى التقمص، والاعتناق البارع لشخصية الأم المتسلطة الغاضبة الحزينة، ولكن المحبة الحنون إلى درجة قصوى، لا تملك التعبير عنها إلا بمزيدٍ من التسلط، فيقع المتلقي مختاراً وعن سابق إصرارٍ في الوهم الفني البديع. ويصدُق هذا الأداء الحيوي المتدفق شديد الإقناع لفنانة كبيرة، لها بصمتها المتفردة. ولعل السيناريست رامي عبد الرزاق لم يجد صعوبةً في تحويل النص الروائي الرشيق الحافل بالمشهدية إلى سيناريو سيصل إلى المشاهد بيسر وسهولة.
فرح كثيرون بهذا العمل المدهش الذي حقق أعلى نسبة مشاهدة منذ عرض الحلقة الأولى، وأظن أن للحديث بقية، فثمّة في الفضاء الدرامي الراهن ثلاثون حلقة، من خلطةٍ إبداعية مثيرة، تستدعي مزيداً من الإضاءة.