06 نوفمبر 2024
درس "الغارديان"
اضطرّت صحيفة الغارديان البريطانية إلى حذف عدة مقالات من موقعها على الإنترنت، بعد أن وُجهت لها اتهامات بفبركة قصص إخبارية منسوبة إلى مراسلها في القاهرة. وفي الوقت نفسه، قدّمت الصحيفة الأعرق في بريطانيا اعتذاراً يجعل من يقرأه من قرّائها يخجل أمام تواضع الصحيفة، وتقديرها الكبير لثقة قرائها فيها. فقد كتبت الصحيفة معتذرةً لقرائها: "نريد أن نعتذر لهؤلاء الأشخاص الذين حُرّفت كلماتهم أو زُوّرت. ونريد أيضاً أن نعتذر منكم - أيها القراء - للأخطاء التي حدثت هنا، ونأمل بألا يؤثر هذا سلباً في ثقتكم بصحيفة الغارديان. ونحن نؤكد لكم أننا سنقوم بما هو أفضل".
أثار الحدث موجة من الانتقادات لواحدةٍ من أعرق الصحف البريطانية المعروفة برصانتها وجدّيتها، واستغله مناصرو الانقلاب في مصر لشن حملةٍ لا أخلاقيةٍ ضد الصحافة الغربية، خصوصاً ضد واحدةٍ من أبرز عناوين هذه الصحافة المعروفة بمهنيتها ورزانتها.
ما طغى على النقاش، خلال الأيام الماضية، هو لغة النقد والردح الصادرة عن إعلاميين يفتقدون إلى المصداقية، وعن وسائل إعلام تابعة أو ممولة من أنظمة مستبدة، انبرت لتلقين الدروس لمدرسة "الغارديان". ووسط كل هذا اللغط الذي رافق هذه القضية، كاد الجميع أن ينسى رد فعل "الغارديان" الذي حمل في طياته أكثر من درس للصحافة الرصينة في عالم اليوم.
فبعد الضجة التي أثيرت، قامت "الغارديان" بالتحقيق في الموضوع، وعندما تأكّد لها عدم مهنية مراسلها وجدّيته، قامت فوراً بفصله، وكتبت اعتذاراً علنيا إلى قرائها.
لكن، على الرغم من ذلك كله، استمرت الحملة ضد الصحيفة البريطانية، خصوصاً من الإعلام المصري الموالي لسلطة الانقلاب، على الرغم من أن تحقيقات "الغارديان" أكدت أن المقالات التي طاولها التحريف من مراسلها المفصول لا تتعلق بالشأن المصري، وإنما بمقالاتٍ سابقةٍ تتناول الشأن الأميركي، إضافة إلى "مقال رأي" قديم يتناول حقوق الحيوان في العالم العربي، ويشير إلى مصر من ضمن دول أخرى، حسب ما أكده تقرير لـ"هافينغتون بوست عربي" تحرّى في الموضوع.
لننسَ ردود الفعل هذه التي تفتقد إلى كل مصداقيةٍ لأنها صادرة عن إعلام رسمي، أو شبه رسمي، فاقد لكل شيء، ولنعِد قراءة رسالة اعتذار "الغارديان" التي تُعلمنا أكثر من درس في الصحافة وفي المصداقية والمهنية.
في البداية، تعترف الجريدة، بدون خجل، بأن مراسلها خرق ثقتها فيه، وبالنسبة لها فإن "الثقة"
هي أهم ما يجمعها بقرائها. وبعد ذلك تقوم، كأي مشتبهٍ به، يجد نفسه في قفص الاتهام، بسرد دقيق ومفصل لما حصل مع مراسلها، منذ أن بدأت التعامل معه إلى أن أثيرت الضجة حول دقة مقالاته. ومن أجل التحقيق فيما حصل، استأجرت الصحيفة مُحققا مُستقلا للتحقيق، حتى لا تكون هي الخصم والحكم، في جميع أعمال مراسلها السابقة.
التحقيق، كما تقول الصحيفة، شمل ما يقرب من 50 مقابلة، بما فيها مقابلاتٍ مع المصادر المفترضة التي اعتمد عليها المراسل، وكشف عن وجود مقالاتٍ تحتوي على "تلفيق مُحتمل أو مؤكد"، وعندما عجز المراسل عن الدفاع عن موقفه أمام نتائج التحقيق الذي أنجزته صحيفته، قرّرت إدارتها فصله، وفي الوقت نفسه، حجب 12 مقالةٍ من مقالاته، واحتفظت بالمقالات الأخرى التي لم يكشف التحقيق عن أي شيء يمسّ مصداقيتها. أما المراسل "الغشاش" فقد حكم على نفسه بوضع نهاية حزينة لمساره المهني.
الجميل في رسالة اعتذار "الغارديان" هو شرحها لقرائها طريقة تعاملها مع قصص ومقالات مراسليها، خصوصاً من الصحافيين المستقلين، أي غير المنتمين إلى فريق العمل. تقول الصحيفة إن أهم ما يجمعها بمراسليها هو موافقتهم الأولية والمبدئية على "أسلوبها التحريري"، أما مستوى الجودة فهي من تقوم بالتأكد منه بنفسها، لأنه سر تعاقدها مع قرائها.
وبعد هذه القضية التي مسّت "مصداقية" "الغارديان"، و"ثقة" قرائها فيها، قالت الصحيفة إنها طرحت على نفسها سؤالاً جوهرياً: ما الذي يجب فعله حتى لا يتكرّر مثل هذا الأمر؟ وخلصت إلى استنتاجين: إعادة النظر في إجراءات اعتماد المراسلين والكتاب المنتظمين معها، والحاجة إلى مزيدٍ من الصرامة في أثناء التدقيق في القصص الإخبارية والتشكيك في مصادر مراسليها مجهولة الهوية، ما لم يتعلق الأمر بمصادر التقارير الحسّاسة مثل "الأمن القومي" التي كتبت الصحيفة أن اللجوء إلى مصادر مجهولةٍ في مثل هذه الحالات يعتبر أمراً طبيعياً.
من يعرف صحيفة الغارديان قد لا يستغرب رد فعلها هذا، فهي اليوم تعتبر من أكثر الصحف المستقلة مهنية ومصداقية في العالم. حافظت على استقلاليتها منذ تأسست قبل 195 سنة، خصوصاً بعد أن تولى سي بي سكوت رئاسة تحريرها مدة ناهزت 57 عاما، وخلف وراءه "ميثاق" تحرير الصحيفة الذي يجده اليوم كل زائر لمقرها في لندن مكتوباً على لوح نحاسي في باحة الاستقبال الرئيسية، تحت عنوان "ورقة سكوت".
تصدر الصحيفة اليوم عن مؤسسة "سكوت تراست"، نسبة إلى أول رئيس تحرير لها، وهي من الصحف العالمية القليلة التي يقوم فيها المحرّرون بانتخاب رئيس التحرير، وهي أيضاً أول صحيفة بريطانية، معروفة بتوجهاتها اليسارية، قرّرت أن تضع نسخة اختيارية على الإنترنت لقرائها الجمهوريين في بريطانيا، عندما ينقرون عليها تختفي كل الأخبار والمواضيع والصور والفيديوهات المتعلقة بالأسرة الملكية في بريطانيا.
عندما تابعت الحملة التي شنتها وسائل إعلام رسمية عربية ضد هذه المعلمة الصحفية، أحسست بالإشفاق على وضع صحافي عربي، يسير من السيئ إلى الأسوأ، مازالت تفصله قرون عما وصلت إليه "الغارديان" التي لا تزيدها عثراتها إلا تقديراً واحتراماً وثقة أكبر من قرائها.
أثار الحدث موجة من الانتقادات لواحدةٍ من أعرق الصحف البريطانية المعروفة برصانتها وجدّيتها، واستغله مناصرو الانقلاب في مصر لشن حملةٍ لا أخلاقيةٍ ضد الصحافة الغربية، خصوصاً ضد واحدةٍ من أبرز عناوين هذه الصحافة المعروفة بمهنيتها ورزانتها.
ما طغى على النقاش، خلال الأيام الماضية، هو لغة النقد والردح الصادرة عن إعلاميين يفتقدون إلى المصداقية، وعن وسائل إعلام تابعة أو ممولة من أنظمة مستبدة، انبرت لتلقين الدروس لمدرسة "الغارديان". ووسط كل هذا اللغط الذي رافق هذه القضية، كاد الجميع أن ينسى رد فعل "الغارديان" الذي حمل في طياته أكثر من درس للصحافة الرصينة في عالم اليوم.
فبعد الضجة التي أثيرت، قامت "الغارديان" بالتحقيق في الموضوع، وعندما تأكّد لها عدم مهنية مراسلها وجدّيته، قامت فوراً بفصله، وكتبت اعتذاراً علنيا إلى قرائها.
لكن، على الرغم من ذلك كله، استمرت الحملة ضد الصحيفة البريطانية، خصوصاً من الإعلام المصري الموالي لسلطة الانقلاب، على الرغم من أن تحقيقات "الغارديان" أكدت أن المقالات التي طاولها التحريف من مراسلها المفصول لا تتعلق بالشأن المصري، وإنما بمقالاتٍ سابقةٍ تتناول الشأن الأميركي، إضافة إلى "مقال رأي" قديم يتناول حقوق الحيوان في العالم العربي، ويشير إلى مصر من ضمن دول أخرى، حسب ما أكده تقرير لـ"هافينغتون بوست عربي" تحرّى في الموضوع.
لننسَ ردود الفعل هذه التي تفتقد إلى كل مصداقيةٍ لأنها صادرة عن إعلام رسمي، أو شبه رسمي، فاقد لكل شيء، ولنعِد قراءة رسالة اعتذار "الغارديان" التي تُعلمنا أكثر من درس في الصحافة وفي المصداقية والمهنية.
في البداية، تعترف الجريدة، بدون خجل، بأن مراسلها خرق ثقتها فيه، وبالنسبة لها فإن "الثقة"
التحقيق، كما تقول الصحيفة، شمل ما يقرب من 50 مقابلة، بما فيها مقابلاتٍ مع المصادر المفترضة التي اعتمد عليها المراسل، وكشف عن وجود مقالاتٍ تحتوي على "تلفيق مُحتمل أو مؤكد"، وعندما عجز المراسل عن الدفاع عن موقفه أمام نتائج التحقيق الذي أنجزته صحيفته، قرّرت إدارتها فصله، وفي الوقت نفسه، حجب 12 مقالةٍ من مقالاته، واحتفظت بالمقالات الأخرى التي لم يكشف التحقيق عن أي شيء يمسّ مصداقيتها. أما المراسل "الغشاش" فقد حكم على نفسه بوضع نهاية حزينة لمساره المهني.
الجميل في رسالة اعتذار "الغارديان" هو شرحها لقرائها طريقة تعاملها مع قصص ومقالات مراسليها، خصوصاً من الصحافيين المستقلين، أي غير المنتمين إلى فريق العمل. تقول الصحيفة إن أهم ما يجمعها بمراسليها هو موافقتهم الأولية والمبدئية على "أسلوبها التحريري"، أما مستوى الجودة فهي من تقوم بالتأكد منه بنفسها، لأنه سر تعاقدها مع قرائها.
وبعد هذه القضية التي مسّت "مصداقية" "الغارديان"، و"ثقة" قرائها فيها، قالت الصحيفة إنها طرحت على نفسها سؤالاً جوهرياً: ما الذي يجب فعله حتى لا يتكرّر مثل هذا الأمر؟ وخلصت إلى استنتاجين: إعادة النظر في إجراءات اعتماد المراسلين والكتاب المنتظمين معها، والحاجة إلى مزيدٍ من الصرامة في أثناء التدقيق في القصص الإخبارية والتشكيك في مصادر مراسليها مجهولة الهوية، ما لم يتعلق الأمر بمصادر التقارير الحسّاسة مثل "الأمن القومي" التي كتبت الصحيفة أن اللجوء إلى مصادر مجهولةٍ في مثل هذه الحالات يعتبر أمراً طبيعياً.
من يعرف صحيفة الغارديان قد لا يستغرب رد فعلها هذا، فهي اليوم تعتبر من أكثر الصحف المستقلة مهنية ومصداقية في العالم. حافظت على استقلاليتها منذ تأسست قبل 195 سنة، خصوصاً بعد أن تولى سي بي سكوت رئاسة تحريرها مدة ناهزت 57 عاما، وخلف وراءه "ميثاق" تحرير الصحيفة الذي يجده اليوم كل زائر لمقرها في لندن مكتوباً على لوح نحاسي في باحة الاستقبال الرئيسية، تحت عنوان "ورقة سكوت".
تصدر الصحيفة اليوم عن مؤسسة "سكوت تراست"، نسبة إلى أول رئيس تحرير لها، وهي من الصحف العالمية القليلة التي يقوم فيها المحرّرون بانتخاب رئيس التحرير، وهي أيضاً أول صحيفة بريطانية، معروفة بتوجهاتها اليسارية، قرّرت أن تضع نسخة اختيارية على الإنترنت لقرائها الجمهوريين في بريطانيا، عندما ينقرون عليها تختفي كل الأخبار والمواضيع والصور والفيديوهات المتعلقة بالأسرة الملكية في بريطانيا.
عندما تابعت الحملة التي شنتها وسائل إعلام رسمية عربية ضد هذه المعلمة الصحفية، أحسست بالإشفاق على وضع صحافي عربي، يسير من السيئ إلى الأسوأ، مازالت تفصله قرون عما وصلت إليه "الغارديان" التي لا تزيدها عثراتها إلا تقديراً واحتراماً وثقة أكبر من قرائها.