04 نوفمبر 2024
ثماني حكومات تونسية: كل هذه الإخفاقات
تعاقبت في تونس ثماني حكومات منذ اندلاع الثورة سنة 2010، لم تستطع جميعها وضع حد لمشكلات البلاد، بل كانت الحصيلة، بقطع النظر عن ألوان تلك الحكومات وأطياف المشاركين فيها وسياقات تشكيلها، مخيبةً إلى حدٍّ ما. يذهب بعضهم في تفسير هذه الأحجية إلى نظرية المؤامرة، في حين يتبنى آخرون نظرية صناعة الفشل، حتى يتم إذكاء الحنين إلى الماضي، ومعاقبة شعبٍ تجرأ، في هذه الألفية الثالثة، على وضع حد للاستبداد في محمية القمع العربية.
نوضح، بدايةً، أن توالي الحكومات لم يكن ناجماً عن مجرد إخفاقها فحسب، بل أيضاً ناجماً عن انتخاباتٍ أملت فيها صناديق الاقتراع حقائق سياسية، أعدّت نخباً جديدة لحكم البلاد. دفعت تلك الانتخابات حركة النهضة إلى الحكم، ثم تخلت عنه، تحت ضغط قوى المعارضة التي استغلت الاغتيالات التي نالت زعيمين سياسيين، وعجز حكومة الترويكا عن تصفية تركة الماضي الكريه، فضلا عن تفاقم حل المشكلات الاقتصادية المتراكمة، وخصوصا بطالة الشباب، لإخراجها من الحكم، على الرغم من افتقاد ذلك الشرعية القانونية.
دفعت خريطة الطريق التي صاغها الرباعي الراعي للحوار الوطني الذي أملته أزمة حكومة الترويكا الثانية مع رئيس الحكومة آنذاك، علي العريض، هذه المرة، بحكومة تكنوقراط غير متحزبة، غادرت الحكم، بعد أن نظمت انتخابات 2014 التي أملت فيها صناديق الاقتراع تحالفا حزبياً رباعياً، شكل حكومة الحبيب الصيد، وهو التحالف الحكومي الذي لم يصمد، على الرغم من شرعيته الانتخابية سوى السنة ونصف السنة. سيذكر التاريخ لهذه الحكومة عدة مكاسب، أهمها تحسن الوضع الأمني للبلاد في الأشهر الأخيرة. غير أن إخفاقها لم يكن سبباً في سحب مجلس نواب الشعب الثقة منها، ذلك أن الأسباب الحقيقية تقع في مناطق أخرى، حيث تتمدّد لوبيات المال والأعمال، لتلتهم، هذه المرة، حقل السياسة برمته. نقلت إلينا التلفزة الوطنية وفوداً تفاوض رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، جل تركيبتها قادمة من تلك الدوائر.
يرجع الرأي العام، وجزءٌ من النخب السياسية والإعلامية، إخفاق الحكومات المتعاقبة، على
اختلاف ألوانها وكفاءاتها، إلى عاملين. إما غياب الكفاءة الفردية والجماعية في أعضاء الحكومة من وزراء وكتّاب دولةٍ إلى أي حدٍ يجعلهم هواة ومغامرين يتصرّفون في الدولة، بخفةٍ كبيرةٍ، بقطع النظر عن أيديولوجيا الورع أو المردودية التي تعتمدها أحزابهم، أو انعدام الجرأة السياسية الكافية في اتخاذ إجراءاتٍ مؤلمة، على غرار محاربة الاقتصاد الموازي (التهريب) والفساد وتفكيك منظومة الدعم، وإصلاح منظومة الجباية والضمان الاجتماعي.. إلخ، وهي ملفات حارقة، شكلت ألغاماً مؤقتة، يتم تحاشيها وترحيلها من حكومةٍ إلى أخرى، في سوء تقديرٍ متعمد لضررها القادم بلا شك، وربما كان ضعف الدولة والعجز عن إنفاذ القانون، وضمور قيم المواطنة والعمل إحدى الذرائع التي يستند إليها من يدافع، إلى الآن، عن تجنب الحسم في تلك الملفات. ولعل المطّلع على وثيقة قرطاج، أي المرجعية التي يفترض أن تقود عمل الحكومة في المرحة المقبلة، يعي لما شكلت تلك المسائل بالذات أولويات الحكومة القادمة.
لا أعتقد أن الإخفاقات المتكرّرة ناجمةً عما يكرّره أصدقاؤنا في الجبهة الشعبية باستمرار، أي وصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم، أو تواصل منوال التنمية المستل من نمط اقتصادي رأسمالي متوحش، تنساق إليه البلاد بشكلٍ متسارع، فهذان العاملان، على الرغم من ضبابيتهما وعدم دقتهما، فضلاً عن أيديولوجيتها الفظة، لا يفسّران إلا جزئياً هذا الإخفاق المتواصل للحكومات المتتالية. هناك عوامل أخرى، لا تقل أهميةً عما يكرّره هؤلاء، وهي تقع في مناطقنا الخلفية، أي حيث تتشكل القيم والصور والرموز وذهنياتٌ كثيرة. استهتار المواطنين بالقانون وتبجحهم بالتنكيل بالدولة ورموزها بتزكية ومباركة من الفاعلين السياسيين، وحتى أطياف المجتمع المدني، واستشراء ثقافة الفساد وتنطع النقابات الأمنية وازدهار سوق بيع أسرار الدولة في المزادات العلنية، واستعداد جزء كبير من النخب السياسية الحاكمة، أو المعارضة، على إسقاط الدولة، نكايةً في بعضهم على مذهب "علي وعلى أعدائي"، حتى ولو انهار المعبد على من فيه، يمكن أن تشكل مداخل غير مألوفة لم توردها السرديات الممجوجة.
لا يمكن أن نستمر في الاستماع إلى تلك السرديات السطحية التي تمتعنا، وتدغدغ سلبيتنا، حين لا تحملنا أدنى مسؤولية في ما آل إليه أمر أول بلدٍ يضع خطاه في مسار التحول الديمقراطي. السياقات الدولية والإقليمية المناهضة لهذه التجربة والحريصة على إفشالها ما كان لها أن تجد موطئ قدم، لو لم تتوفر حاضناتٌ لها، هي فينا قبل كل شيء.
كان رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، يفاخر، وهو في أوج هيجانه الانتخابي، بأن لحزب نداء تونس كفاءاتٍ تؤهله لتشكيل أربع حكومات في الوقت الذي كان الرحل يعتقد أن إبعاد "النهضة" عن الحكم سيفتح المجال لعباقرة هذا الحزب الهجين، حتى يخرجوا البلاد من أزماتها الخانقة. برهنت الأيام أن الحقيقة ليست أمنيات/ أوهام الرئيس، وأن تونس تحتاج، أيضاً، إلى كثير من التواضع والموضوعية.
نوضح، بدايةً، أن توالي الحكومات لم يكن ناجماً عن مجرد إخفاقها فحسب، بل أيضاً ناجماً عن انتخاباتٍ أملت فيها صناديق الاقتراع حقائق سياسية، أعدّت نخباً جديدة لحكم البلاد. دفعت تلك الانتخابات حركة النهضة إلى الحكم، ثم تخلت عنه، تحت ضغط قوى المعارضة التي استغلت الاغتيالات التي نالت زعيمين سياسيين، وعجز حكومة الترويكا عن تصفية تركة الماضي الكريه، فضلا عن تفاقم حل المشكلات الاقتصادية المتراكمة، وخصوصا بطالة الشباب، لإخراجها من الحكم، على الرغم من افتقاد ذلك الشرعية القانونية.
دفعت خريطة الطريق التي صاغها الرباعي الراعي للحوار الوطني الذي أملته أزمة حكومة الترويكا الثانية مع رئيس الحكومة آنذاك، علي العريض، هذه المرة، بحكومة تكنوقراط غير متحزبة، غادرت الحكم، بعد أن نظمت انتخابات 2014 التي أملت فيها صناديق الاقتراع تحالفا حزبياً رباعياً، شكل حكومة الحبيب الصيد، وهو التحالف الحكومي الذي لم يصمد، على الرغم من شرعيته الانتخابية سوى السنة ونصف السنة. سيذكر التاريخ لهذه الحكومة عدة مكاسب، أهمها تحسن الوضع الأمني للبلاد في الأشهر الأخيرة. غير أن إخفاقها لم يكن سبباً في سحب مجلس نواب الشعب الثقة منها، ذلك أن الأسباب الحقيقية تقع في مناطق أخرى، حيث تتمدّد لوبيات المال والأعمال، لتلتهم، هذه المرة، حقل السياسة برمته. نقلت إلينا التلفزة الوطنية وفوداً تفاوض رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، جل تركيبتها قادمة من تلك الدوائر.
يرجع الرأي العام، وجزءٌ من النخب السياسية والإعلامية، إخفاق الحكومات المتعاقبة، على
لا أعتقد أن الإخفاقات المتكرّرة ناجمةً عما يكرّره أصدقاؤنا في الجبهة الشعبية باستمرار، أي وصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم، أو تواصل منوال التنمية المستل من نمط اقتصادي رأسمالي متوحش، تنساق إليه البلاد بشكلٍ متسارع، فهذان العاملان، على الرغم من ضبابيتهما وعدم دقتهما، فضلاً عن أيديولوجيتها الفظة، لا يفسّران إلا جزئياً هذا الإخفاق المتواصل للحكومات المتتالية. هناك عوامل أخرى، لا تقل أهميةً عما يكرّره هؤلاء، وهي تقع في مناطقنا الخلفية، أي حيث تتشكل القيم والصور والرموز وذهنياتٌ كثيرة. استهتار المواطنين بالقانون وتبجحهم بالتنكيل بالدولة ورموزها بتزكية ومباركة من الفاعلين السياسيين، وحتى أطياف المجتمع المدني، واستشراء ثقافة الفساد وتنطع النقابات الأمنية وازدهار سوق بيع أسرار الدولة في المزادات العلنية، واستعداد جزء كبير من النخب السياسية الحاكمة، أو المعارضة، على إسقاط الدولة، نكايةً في بعضهم على مذهب "علي وعلى أعدائي"، حتى ولو انهار المعبد على من فيه، يمكن أن تشكل مداخل غير مألوفة لم توردها السرديات الممجوجة.
لا يمكن أن نستمر في الاستماع إلى تلك السرديات السطحية التي تمتعنا، وتدغدغ سلبيتنا، حين لا تحملنا أدنى مسؤولية في ما آل إليه أمر أول بلدٍ يضع خطاه في مسار التحول الديمقراطي. السياقات الدولية والإقليمية المناهضة لهذه التجربة والحريصة على إفشالها ما كان لها أن تجد موطئ قدم، لو لم تتوفر حاضناتٌ لها، هي فينا قبل كل شيء.
كان رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، يفاخر، وهو في أوج هيجانه الانتخابي، بأن لحزب نداء تونس كفاءاتٍ تؤهله لتشكيل أربع حكومات في الوقت الذي كان الرحل يعتقد أن إبعاد "النهضة" عن الحكم سيفتح المجال لعباقرة هذا الحزب الهجين، حتى يخرجوا البلاد من أزماتها الخانقة. برهنت الأيام أن الحقيقة ليست أمنيات/ أوهام الرئيس، وأن تونس تحتاج، أيضاً، إلى كثير من التواضع والموضوعية.