06 نوفمبر 2024
ماذا بقي من ثورة البلاشفة؟
تحل اليوم، 25 من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، الذكرى المئوية لقيام الثورة الروسية، التي تعد أكبر ثورة شهدها العالم في القرن العشرين، وغيرت مجرى التاريخ، ومازالت تؤثر فيه، لكن المفارقة أن ذكرى هذه الثورة تمر في صمت، حتى في البلد الذي شهدها، أي روسيا التي مازال ينظر إليها ممثلة للفكر الاشتراكي وحاملة له، وهو الذي قامت عليه الثورة التي انتهت إلى فشل ذريع، وتم نعيها نهاية ثمانينات القرن الماضي مع انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان معقلها وحصنها المنيع.
مناسبة الوقوف عند الذكرى المئوية لواحدة من أكبر ثورات القرن الماضي التي مازال فكرها حياً فرصة أيضاً للوقوف عند أخطائها الكبيرة، للاستفادة منها في عصرنا الحالي. ولكن، قبل الخوض في أسباب فشل تلك الثورة، لابد من التوضيح والتمييز بين الثورة الروسية، والمقصود بها الثورة الشعبية التلقائية التي اندلعت في فبراير/ شباط 1917 بسبب جو الإحباط العام الذي كان سائداً في روسيا القيصرية، وانتشار الفقر والجوع، ما أدى بالناس إلى النزول إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم، وكان شعارهم الوحيد "أعطونا الخبز"!. والثورة البلشفية، والتي مثلت المرحلة الثانية من الثورة الروسية، وحدثت يوم 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917، حسب التقويم الغريغوري الذي كان معمولاً به في عهد القيصر، وهو ما يوازي يوم 25 أكتوبر حسب التقويم الميلادي الذي أصبح معتمداً في روسيا بعد قيام الثورة. وكان قائد الثورة الثانية التي ستغير مجرى التاريخ هم "البلاشفة" (الأكثرية داخل حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي الذين كانوا يؤيدون الحل الثوري)، بقيادة زعيمهم فلاديمير لينين الذي استلهم فكر كارل ماركس.
نجحت الثورة البلشفية في وقت وجيز، مقارنة مع ثورات أخرى في التاريخ، أن تقيم واحدة من أكبر الإمبراطوريات وأقواها في العالم، وفرضت سيطرتها ونشرت فكرها في أكثر من نصف
كانت أسباب هذا الانهيار وفشل الثورة بادية منذ قيامها، وظلت تتفاعل مثل "بكتيريا" معدية، حتى نخرت الجسد من الداخل، فانهار دفعة واحدة مثل قصر من رمال. وأول من نبّه إلى مكمن الخطر هو أحد أبناء هذه الثورة نفسها، وواحد من كبار مفكريها ومنظريها، لم يحظ في زمانه بأي اعتراف، بل إنه سُجن ونفي ومات فقيراً منفياً في المكسيك.
يتعلق الأمر بالكاتب فيكتور سيرج (1880 – 1947)، الذي يعد من أهم الكتاب الثوريين في القرن الماضي. انتبه منذ البداية إلى غياب أهم قيمةٍ يمكن أن تستند عليها ثورة حقيقية، وهي قيمة الحرية التي اغتالها جوزيف ستالين، وحارب كل المفكرين الثوريين آنذاك الذين نادوا بتغليب الحرية قيمة إنسانية عليا على كل القيم الاشتراكية الأخرى مهما كان نبلها.
وفي كتاب مذكراته التي كتبها في منفاه المكسيكي "مذكرات ثوري" (تصدر قريباً بالعربية في المغرب من ترجمة فريق من المترجمين وتنسيق المعطي منجب)، كان سيرج سابقاً لعصره، ومتقدماً على زملائه من المفكرين الثوار، عندما جعل الحرية قيمة أساسية في بناء كل فعل إنساني ناجح، للمساهمة الواعية في صنع التاريخ. وكان أول مفكر ثوري شارك في الثورة، وحمل السلاح، ودافع عنها بالقلم، يستعمل تعبير "الشمولية" لوصف سيطرة الحزب الشيوعي على كل منافذ الحياة داخل الدولة، كما كان سباقاً إلى الإشارة إلى مصطلح "حقوق الإنسان"، سنوات قبل صدور البيان العالمي لهذه الحقوق الذي صدر عام 1948.
بدأ سيرج حياته فوضوياً، وسرعان ما جذبته الثورة الروسية وثورة البلاشفة، فانخرط فيها
تنبأ سيرج بفشل الثورة التي كان هو أحد أكبر المتحمسين لها، وشقّ عصا الطاعة عليها، لكنه ظل مؤمناً بأن الفكرة التي قامت عليها ستبقى حية. ومن أجل ذلك، ترك وراءه كتباً ومقالات ورواياتٍ تمجد الثورة، باعتبارها إرثاً إنسانياً خالداً يتجدد عبر العصور، ولدى كل شعوب الأرض.
والمفارقة أن الالتفات في الغرب إلى إرث هذا المفكر الثوري لم يحدث إلا بعد وفاته بسنوات، بسبب الدعاية الستالينية التي عملت على تشويه سمعته، والنيل من مصداقيته، وستبقى إحدى أهم مقولاته تختزل تحاليل ودراسات كثيرة كتبت عن الثورة البلشفية، عندما تنبأ مبكراً بأن "الثورة فشلت، لكن الفكرة مازالت حية"، إنها الفكرة النبيلة التي قامت من أجلها تلك الثورة ومازالت تحلم بها شعوب كثيرة، أي العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والحرية.. أو ليست هذه هي نفسها شعارات ثورات الربيع العربي التي أُفشلت؟
أعيدوا قراءة فيكتور سيرج.. قد تفشل الثورات أو تجهض، لكن الأفكار تبقى حية لا تموت.