08 نوفمبر 2024
المغرب.. لا رهان على حقل حزبي معطوب
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
منذ أزيد من سنة؛ تحديدا بعد الانتخابات التشريعية في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، تعيش الأحزاب السياسية المغربية على وقع تحولاتٍ جارفة. بعضها ذاتي؛ مرتبط بالدينامية الداخلية التي تشهدها أي مؤسسة حزبية عقب كل محطة انتخابية، وبعضها موضوعي؛ يتصل أساسا بمتغيرات المشهد السياسي منذ تشكيل الحكومة، وما رافق ذلك من حراك اجتماعي، توّلد عنه نقد حاد في خطاب العرش قبل أيام، وصل إلى درجة إعلان عاهل البلاد فقدان الثقة في عدد من السياسيين.
هزات متوالية خلطت الأوراق في مشهدٍ حزبيٍّ ملتبس، لم يعد المتتبع له قادرا على التمييز بين خطابي الحكومة والمعارضة، بل إن الحدود باتت شبه معدومة بين الفريقين؛ فما أكثر الأصوات المعارضة من داخل الائتلاف الحكومي، وما أكثر المساندين للحكومة في صفوف المعارضة (واقعة انتخاب رئيس مجلس النواب خير دليل). ولم يسلم أي حزب سياسي من تأثير هذه التحولات النوعية التي لم يسبقها نظير في السياق المغربي؛ حتى المشهود لها بالصرامة التنظيمية والتماسك الداخلي والانضباط المؤسساتي، وإن تفاوتت درجتها؛ بحسب الموقع والحجم اللذين يشغلهما الحزب في المشهد السياسي.
حزب العدالة والتنمية قائد الائتلاف الحكومي الحالي على رأس القائمة، فمنذ إعفاء أمينه العام،
عبد الإله بنكيران، في مارس/ آذار المنصرم، من مهام تشكيل الحكومة، وفتيل الفتنة الكبرى يتوقد بين إسلاميي المغرب. وصار الصراع على أشده بين أبناء التنظيم الواحد حول أكثر من قضية (رئاسة الحكومة، حراك الريف، الولاية الثالثة...).
تبقى معركة الولاية الثالثة النقطة التي أفاضت الكأس، فمعها بدأت أسرار المجالس، وتفاصيل الخلافات بين الإخوان تخرج إلى الصحافة والرأي العام، بل من قيادات الصف الأول من لم يتردّد في الإعلان عن معارضته الصريحة تعديل الإجراءات الداخلية التي تمت بشكل ديمقراطي، لفسح المجال أمام بنكيران للترشح لولاية ثالثة. وبدأ الاصطفاف والتمايز واضحا بين تيارين؛ تيار الوزراء الرافض للتمديد بمبرّرات عديدة (الانتصار للمؤسسات، الخوف من الصدام مع الملكية...) أغلبها حقٌّ أريد به باطل، يدعمه في التوجه نفسه كل من الجناح الدعوي للحزب، ممثلا في قيادات حركة التوحيد والإصلاح التي لم تعد تعير اهتماما لقاعدة فصل الدعوي عن السياسي، ورموز من الفصيل الطلابي للإخوان المسلمين في الجامعة. وتيار الولاية الثالثة الذي يرى نهاية الحزب حتمية بدون زعيمه، الذي استطاع، على الرغم من كل العراقيل أن يطرح معالم أطروحة إصلاحية تناسب السياق المغربي، ثم هل من المقبول التفريط في زعيم استطاع كسب ثلاث معارك انتخابية متوالية (2011،2015 ، 2016).
ليس حال حزب الأصالة والمعاصرة؛ أكبر حزب معارض في البرلمان، أحسن من حال سابقه، فقد دخل مرحلة التيه وفقدان البوصلة، بعدما قرّر أمينه العام (وبشكل مفاجئ)، تقديم استقالته من الحزب، تجاوبا مع الخطاب الملكي لعيد العرش. وهو قرار كان له وقع خاص داخل حزبٍ يضم طوائف شتى من المناضلين (بقايا اليسار الجذري، رجال الأعمال، أعيان الدولة، بعض المثقفين...).
فما أن تخلت الدولة في المغرب عن الرهان على هذا الحزب لوقف مد الإسلاميين، بعد أن طال انتظارها، حتى اشتعل أتون حربٍ طاحنة بين رفاق الأمس، وبدأ الطعن من الخلف والضرب تحت الحزام. وبلغ أحيانا درجة التهديد المباشر لبعض القيادات، بعد الشروع في نشر غسيل رموز هذا الحزب في الصحافة، واتهام عصبةٍ بعينها باستغلال المؤسسة الحزبية من أجل الاغتناء والكسب غير المشروع.
حزب عريق من طينة حزب الاستقلال؛ سليل الحركة الوطنية، لم يسلم بدوره من هذا المد الجارف، فقد انقسم على نفسه منذ مدة تيارات؛ بعضها فكري وأغلبها مصلحي، سرعان ما دخلت في الأشهر الماضية في حرب الإخوة الأعداء... حرب كان الجميع على موعد مع بعض أطوارها في ما تعرف إعلاميا بواقعة "الصحون الطائرة" التي شهدها المؤتمر الوطني الأخير للحزب. وقد كانت السبب وراء تأجيل انتخاب باقي الأجهزة المركزية أسبوعا، هذا ولا يزال الصراع مستمرا داخله؛ فالقيادة الجديدة تسعى إلى تطهير هياكل الحزب من بقايا أنصار القيادة القديمة.
ليست بقية الأحزاب الفاعلة في الحقل السياسي المغربي في منأى عن هذا المخاض، فحزب
الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ذو التاريخ النضالي العريق يخفت بريقه تدريجيا، بسبب الصراعات الداخلية بين رفاقٍ حوّلوا الحزب إلى زاوية تُسبح باسم الزعيم الوحيد. أما مناضلو حزب التجمع الوطني للأحرار، فلم يكن أمامهم خيار آخر غير مبايعة الزعيم الجديد للحزب على عجلة من أمرهم، تمهيدا للمساهمة في أطول انسداد (بلوكاج) حكومي في تاريخ البلاد.
هذا حال المشهد الحزبي المغربي، أحزاب سياسية معطوبة ونخبة مغلوبٌ على أمرها، تُصر على تقديم نفسها قربانا في محراب السلطة، ولو على حساب شرعيتها التاريخية ومصداقيتها واستقلالية قرارها الداخلي. في حين كان واقع الحال يفترض أن تتخذ لذاتها مسافة أمان، تُمكّنها من الاضطلاع بدورها مؤسساتٍ تنهض بمهامها الدستورية، وتتولى الوساطة بين السلطة والمواطنين متى اشتدت الأزمات.
من كان يتوقع أن تتاح للمخزن فرصة بهذه السرعة القياسية، من أجل تجفيف الساحة السياسية، من أي رموزٍ أو علاماتٍ من شأنها أن تبقي ذكرى الربيع المغربي في الوعي الجمعي للمغاربة. فرصة ذهبية تقدمها النخب السياسية اليوم، في وقتٍ تصر فيه العامة على الدفاع، وباستماتة، على مكتسباتها البسيطة. وترفض أن تستسلم أمام إصرار الدولة العميقة على استعادة زمام الأمور، والتحكّم في مجريات اللعبة السياسية؛ أي العودة إلى ما قبل دستور 2011 بصناعة ديمقراطية شكلية، لا اعتبار فيها لصوت المواطن، ولا لشرعية نتائج الصندوق.
هزات متوالية خلطت الأوراق في مشهدٍ حزبيٍّ ملتبس، لم يعد المتتبع له قادرا على التمييز بين خطابي الحكومة والمعارضة، بل إن الحدود باتت شبه معدومة بين الفريقين؛ فما أكثر الأصوات المعارضة من داخل الائتلاف الحكومي، وما أكثر المساندين للحكومة في صفوف المعارضة (واقعة انتخاب رئيس مجلس النواب خير دليل). ولم يسلم أي حزب سياسي من تأثير هذه التحولات النوعية التي لم يسبقها نظير في السياق المغربي؛ حتى المشهود لها بالصرامة التنظيمية والتماسك الداخلي والانضباط المؤسساتي، وإن تفاوتت درجتها؛ بحسب الموقع والحجم اللذين يشغلهما الحزب في المشهد السياسي.
حزب العدالة والتنمية قائد الائتلاف الحكومي الحالي على رأس القائمة، فمنذ إعفاء أمينه العام،
تبقى معركة الولاية الثالثة النقطة التي أفاضت الكأس، فمعها بدأت أسرار المجالس، وتفاصيل الخلافات بين الإخوان تخرج إلى الصحافة والرأي العام، بل من قيادات الصف الأول من لم يتردّد في الإعلان عن معارضته الصريحة تعديل الإجراءات الداخلية التي تمت بشكل ديمقراطي، لفسح المجال أمام بنكيران للترشح لولاية ثالثة. وبدأ الاصطفاف والتمايز واضحا بين تيارين؛ تيار الوزراء الرافض للتمديد بمبرّرات عديدة (الانتصار للمؤسسات، الخوف من الصدام مع الملكية...) أغلبها حقٌّ أريد به باطل، يدعمه في التوجه نفسه كل من الجناح الدعوي للحزب، ممثلا في قيادات حركة التوحيد والإصلاح التي لم تعد تعير اهتماما لقاعدة فصل الدعوي عن السياسي، ورموز من الفصيل الطلابي للإخوان المسلمين في الجامعة. وتيار الولاية الثالثة الذي يرى نهاية الحزب حتمية بدون زعيمه، الذي استطاع، على الرغم من كل العراقيل أن يطرح معالم أطروحة إصلاحية تناسب السياق المغربي، ثم هل من المقبول التفريط في زعيم استطاع كسب ثلاث معارك انتخابية متوالية (2011،2015 ، 2016).
ليس حال حزب الأصالة والمعاصرة؛ أكبر حزب معارض في البرلمان، أحسن من حال سابقه، فقد دخل مرحلة التيه وفقدان البوصلة، بعدما قرّر أمينه العام (وبشكل مفاجئ)، تقديم استقالته من الحزب، تجاوبا مع الخطاب الملكي لعيد العرش. وهو قرار كان له وقع خاص داخل حزبٍ يضم طوائف شتى من المناضلين (بقايا اليسار الجذري، رجال الأعمال، أعيان الدولة، بعض المثقفين...).
فما أن تخلت الدولة في المغرب عن الرهان على هذا الحزب لوقف مد الإسلاميين، بعد أن طال انتظارها، حتى اشتعل أتون حربٍ طاحنة بين رفاق الأمس، وبدأ الطعن من الخلف والضرب تحت الحزام. وبلغ أحيانا درجة التهديد المباشر لبعض القيادات، بعد الشروع في نشر غسيل رموز هذا الحزب في الصحافة، واتهام عصبةٍ بعينها باستغلال المؤسسة الحزبية من أجل الاغتناء والكسب غير المشروع.
حزب عريق من طينة حزب الاستقلال؛ سليل الحركة الوطنية، لم يسلم بدوره من هذا المد الجارف، فقد انقسم على نفسه منذ مدة تيارات؛ بعضها فكري وأغلبها مصلحي، سرعان ما دخلت في الأشهر الماضية في حرب الإخوة الأعداء... حرب كان الجميع على موعد مع بعض أطوارها في ما تعرف إعلاميا بواقعة "الصحون الطائرة" التي شهدها المؤتمر الوطني الأخير للحزب. وقد كانت السبب وراء تأجيل انتخاب باقي الأجهزة المركزية أسبوعا، هذا ولا يزال الصراع مستمرا داخله؛ فالقيادة الجديدة تسعى إلى تطهير هياكل الحزب من بقايا أنصار القيادة القديمة.
ليست بقية الأحزاب الفاعلة في الحقل السياسي المغربي في منأى عن هذا المخاض، فحزب
هذا حال المشهد الحزبي المغربي، أحزاب سياسية معطوبة ونخبة مغلوبٌ على أمرها، تُصر على تقديم نفسها قربانا في محراب السلطة، ولو على حساب شرعيتها التاريخية ومصداقيتها واستقلالية قرارها الداخلي. في حين كان واقع الحال يفترض أن تتخذ لذاتها مسافة أمان، تُمكّنها من الاضطلاع بدورها مؤسساتٍ تنهض بمهامها الدستورية، وتتولى الوساطة بين السلطة والمواطنين متى اشتدت الأزمات.
من كان يتوقع أن تتاح للمخزن فرصة بهذه السرعة القياسية، من أجل تجفيف الساحة السياسية، من أي رموزٍ أو علاماتٍ من شأنها أن تبقي ذكرى الربيع المغربي في الوعي الجمعي للمغاربة. فرصة ذهبية تقدمها النخب السياسية اليوم، في وقتٍ تصر فيه العامة على الدفاع، وباستماتة، على مكتسباتها البسيطة. وترفض أن تستسلم أمام إصرار الدولة العميقة على استعادة زمام الأمور، والتحكّم في مجريات اللعبة السياسية؛ أي العودة إلى ما قبل دستور 2011 بصناعة ديمقراطية شكلية، لا اعتبار فيها لصوت المواطن، ولا لشرعية نتائج الصندوق.
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
محمد طيفوري
مقالات أخرى
23 أكتوبر 2024
11 أكتوبر 2024
22 سبتمبر 2024