11 نوفمبر 2023
ديناميات التدمير المتبادل بين أميركا وإسرائيل
عبد الوهاب الأفندي
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
في الظاهر، تعتبر ظاهرة دونالد ترامب في أميركا، وما تمثله من حالة حربٍ مع كل ما تمثله أميركا والحضارة الغربية من قيم ليبرالية، ظاهرة محيرة. فكيف تنجب أميركا حركةً تتعاطف مع كل دكتاتور قبيح، من فلاديمير بوتين إلى عبد الفتاح السيسي، وتتنكّر للحلفاء الأوروبيين، وتحتفل بتمزيق الاتحاد الأوروبي؟ فلو أن بن لادن أو الخميني حكم أميركا لربما يكون أكثر احتراماً لقيمها من زعيمها الحالي. ولكن الحيرة قد تتبدّد لو تتبعنا التيارات التي مهدت لهذه الحركة، وهي تتفاعل تحت السطح خلال العقود الثلاثة الماضية، وهي تياراتٌ يغفل عنها كثيرون، ولها عنوان واحد: إسرائيل. ولا يتعلق الأمر هنا بالتيارات النيوليبرالية، ولا تيار المحافظين الجدد، لأن ما وحّد بين هذين التيارين كان الثقة الزائدة في قوة أميركا وهيمنة الغرب. رأى الليبراليون الجدد في تحرير الاقتصاد والعولمة إطلاقاً لهيمنة الغرب من عقالها، وجعل هذه الهيمنة نهائية مع "نهاية التاريخ". أما المحافظون الجدد فقد رأوا أن هذه فرصةٌ لتفرض أميركا هيمنتها في المناطق التي تحدّت هيمنتها حتى الآن، خصوصا الشرق الأوسط، حيث أوجد عصر الأحادية القطبية فرصة ذهبية لتنفيذ أجنداتٍ مبيتة، مثل ضمان هيمنة إسرائيل.
ولكن التيار الذي نعنيه هنا، على الرغم من تقاطعه مع المحافظين الجدد في بعض الأهداف والدوافع (بل والعلاقات الأسرية، كما سنوضح)، إلا أنه يختلف في أنه تيار خوفٍ وتخويف. فهو لا يرى أن أميركا في حالة نصر يستوجب النشوة، بل هي تحت تهديد خطير يأتي من الداخل، وتحديداً من الجامعات الأميركية التي تحولت إلى معقل لليسار والأجانب المعادين للولايات المتحدة وقيمها وثقافتها، فقد أصبحت "الحضارة الأميركية" مهدّدة، لأن "مثقفيها لم يعودوا راغبين في الدفاع عنها"، كما جاء في تقرير صدر عن منظمةٍ كانت تقودها لين تشيني، زوجة نائب الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، مع جوزيف ليبرمان، مرشح الحزب الديمقراطي نائباً للرئيس في عام 2000 مع المرشح الرئاسي آل غور.
المفارقة هي كيف طلب ليبرمان، الذي نافس، فيما بعد، المرشح الجمهوري بوش، ونائبه ديك تشيني، أن يقف جنباً إلى جنب مع زوجة زعيم المحافظين الجدد الذين عرفوا بتطرفهم
وأجنداتهم الإمبريالية؟ كلمة السر هي إسرائيل. فما يجمع بين الصقر الجمهوري وأول مرشح يهودي لمنصب نائب الرئيس، هو حب إسرائيل والتوله بها. ولم يكن لهذه المبادرة علاقة بأحداث "11 سبتمبر"، لأن إنشاء منظمة المجلس الأميركي للخريجين والأمناء تم في عام 1995، وتركّز عملها في محاربة ما وصفته بالتوجهات المعادية لأميركا في الجامعات. وقد رصدت المنظمة كمية هائلة من الأموال لهذا الغرض، حتى أنها ادعت على موقعها في عام 2001 أن ميزانيتها بلغت قرابة ثلاثة مليارات ونصف مليار دولار، ما يجعلها "أكبر مانح للجامعات الأميركية".
وفي عام 2002، ظهرت مؤسسة أخرى كانت أكثر وضوحاً في أهدافها تحت اسم "مراقبة الحرم الجامعي"، بقيادة دانيال بايبس المشهور بدعمه إسرائيل ومعاداته العرب والمسلمين. ندبت المنظمة نفسها لـ "فضح" الأكاديميين المعادين لأميركا ومنتقدي إسرائيل، ونشرت، في أسبوعها الأول، "قائمة سوداء" من ثمانية عشر أكاديمياً، رأت ذلك ينطبق عليهم. كما حرّضت الطلاب على الوشاية بأساتذتهم، إذا لمسوا منهم تحيزاً ضد إسرائيل، وطالبت الكونغرس بوقف تمويل المؤسسات التي لا تعين على الأقل أكاديمياً واحداً مؤيداً لإسرائيل. أثارت تكتيكاتها غضب المجتمع الأكاديمي الذي تطوّع العشرات منه للانضمام إلى قائمتها السوداء. ولكن هذا لم يوقف المنظمة ورديفتها من المضي في غيهما. وقد حققت نجاحاً لا بأس به، حيث دفعت الكونغرس إلى تعديل قوانين تمويل الجامعات لخدمة أهدافها.
أنشأ أنصار إسرائيل حركاتٍ أخرى لابتزاز منتقدي إسرائيل، أو استهداف العرب والمسلمين، مثل حملة المدعو دايفيد يروشلامي لسن قوانين في عدد من الولايات، تحرّم ما قال إنه سن قوانين تستند إلى الشريعة الإسلامية. هذا على الرغم من أنه لا توجد أي جهةٍ تدعو إلى سن مثل هذه القوانين، لكن الهدف إثارة الكراهية ضد المسلمين والخوف منهم، بحجة أنهم يريدون فرض الشريعة في أميركا! ولا عجب، إذن، أن روّجت مثل هذه الحركات المخاوف والشائعات التي أججت الإسلاموفوبيا في البلاد، وأحدثت التيار الذي استغله ترامب للوثوب إلى السلطة. وقد كان أنصار إسرائيل من الفاشيين الجدد في الخلف وفي المقدمة من كل هذه الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين، والأباطيل والأكاذيب التي تغذّيها.
وقد وجهنا، نحن وكثيرون غيرنا، انتقاداتٍ محقة لهذا المنهج الأرعن في الدفاع عن إسرائيل،
ليس أقلها أن منهج الابتزاز والبلطجة ضد الخصوم هو "منهج انتحاري" بالنسبة لأي أكاديمية، فوق أن هذه الحركة كانت تروج الجهل بدل العلم في المؤسسات الأكاديمية (حذرت من تدريس كتب إدوارد سعيد وغيره من منتقدي الإمبريالية، بل رفضت أن يتعلم الطلاب اللغة العربية!). وهو أخيراً قد يدفع بكثيرين من الأكاديميين الأميركيين الذين صمتوا عن مواجهة جرائم إسرائيل ينشطون غصباً عنهم في التصدّي لها دفاعاً عن أنفسهم.
ولكن أكبر تحذير وجهناه لهذه الفئة السادرة في غيها هو أن تأجيج العنصرية الغربية ضد العرب والمسلمين سيجلب الضرر على اليهود أيضاً، لأن العنصرية الغربية موجهة بالضرورة ضدهم. صحيح أن كثيرين من أقطاب اليمين المتطرّف يتظاهرون، هذه الأيام، بحب إسرائيل، بل يكاد نتنياهو يضارع بوتين عندهم في مصاف الآلهة التي يعبدون. ولكن، حين يجد الجد، فإن العنصرية هي العنصرية.
وقد وقع بالفعل ما حذرنا منه، حيث إن مد الشر العدواني الذي روجه هؤلاء لا يجتهد فحسب في تدمير التراث الحضاري الليبرالي لأميركا وأوروبا أكثر مما يجتهد في محاربة "التطرّف" الإسلامي، بل إن الجرائم ضد اليهود ارتفعت أضعافاً مضاعفة في عهد ترامب الميمون. وما سيأتي سيكون أفظع. فقد أصبح التطرّف الإسرائيلي وربيبه الأميركي وبالاً على الطرفين، وأداة تدمير متبادل بين أميركا وإسرائيل. وقد أعذر من أنذر.
ولكن التيار الذي نعنيه هنا، على الرغم من تقاطعه مع المحافظين الجدد في بعض الأهداف والدوافع (بل والعلاقات الأسرية، كما سنوضح)، إلا أنه يختلف في أنه تيار خوفٍ وتخويف. فهو لا يرى أن أميركا في حالة نصر يستوجب النشوة، بل هي تحت تهديد خطير يأتي من الداخل، وتحديداً من الجامعات الأميركية التي تحولت إلى معقل لليسار والأجانب المعادين للولايات المتحدة وقيمها وثقافتها، فقد أصبحت "الحضارة الأميركية" مهدّدة، لأن "مثقفيها لم يعودوا راغبين في الدفاع عنها"، كما جاء في تقرير صدر عن منظمةٍ كانت تقودها لين تشيني، زوجة نائب الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، مع جوزيف ليبرمان، مرشح الحزب الديمقراطي نائباً للرئيس في عام 2000 مع المرشح الرئاسي آل غور.
المفارقة هي كيف طلب ليبرمان، الذي نافس، فيما بعد، المرشح الجمهوري بوش، ونائبه ديك تشيني، أن يقف جنباً إلى جنب مع زوجة زعيم المحافظين الجدد الذين عرفوا بتطرفهم
وفي عام 2002، ظهرت مؤسسة أخرى كانت أكثر وضوحاً في أهدافها تحت اسم "مراقبة الحرم الجامعي"، بقيادة دانيال بايبس المشهور بدعمه إسرائيل ومعاداته العرب والمسلمين. ندبت المنظمة نفسها لـ "فضح" الأكاديميين المعادين لأميركا ومنتقدي إسرائيل، ونشرت، في أسبوعها الأول، "قائمة سوداء" من ثمانية عشر أكاديمياً، رأت ذلك ينطبق عليهم. كما حرّضت الطلاب على الوشاية بأساتذتهم، إذا لمسوا منهم تحيزاً ضد إسرائيل، وطالبت الكونغرس بوقف تمويل المؤسسات التي لا تعين على الأقل أكاديمياً واحداً مؤيداً لإسرائيل. أثارت تكتيكاتها غضب المجتمع الأكاديمي الذي تطوّع العشرات منه للانضمام إلى قائمتها السوداء. ولكن هذا لم يوقف المنظمة ورديفتها من المضي في غيهما. وقد حققت نجاحاً لا بأس به، حيث دفعت الكونغرس إلى تعديل قوانين تمويل الجامعات لخدمة أهدافها.
أنشأ أنصار إسرائيل حركاتٍ أخرى لابتزاز منتقدي إسرائيل، أو استهداف العرب والمسلمين، مثل حملة المدعو دايفيد يروشلامي لسن قوانين في عدد من الولايات، تحرّم ما قال إنه سن قوانين تستند إلى الشريعة الإسلامية. هذا على الرغم من أنه لا توجد أي جهةٍ تدعو إلى سن مثل هذه القوانين، لكن الهدف إثارة الكراهية ضد المسلمين والخوف منهم، بحجة أنهم يريدون فرض الشريعة في أميركا! ولا عجب، إذن، أن روّجت مثل هذه الحركات المخاوف والشائعات التي أججت الإسلاموفوبيا في البلاد، وأحدثت التيار الذي استغله ترامب للوثوب إلى السلطة. وقد كان أنصار إسرائيل من الفاشيين الجدد في الخلف وفي المقدمة من كل هذه الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين، والأباطيل والأكاذيب التي تغذّيها.
وقد وجهنا، نحن وكثيرون غيرنا، انتقاداتٍ محقة لهذا المنهج الأرعن في الدفاع عن إسرائيل،
ولكن أكبر تحذير وجهناه لهذه الفئة السادرة في غيها هو أن تأجيج العنصرية الغربية ضد العرب والمسلمين سيجلب الضرر على اليهود أيضاً، لأن العنصرية الغربية موجهة بالضرورة ضدهم. صحيح أن كثيرين من أقطاب اليمين المتطرّف يتظاهرون، هذه الأيام، بحب إسرائيل، بل يكاد نتنياهو يضارع بوتين عندهم في مصاف الآلهة التي يعبدون. ولكن، حين يجد الجد، فإن العنصرية هي العنصرية.
وقد وقع بالفعل ما حذرنا منه، حيث إن مد الشر العدواني الذي روجه هؤلاء لا يجتهد فحسب في تدمير التراث الحضاري الليبرالي لأميركا وأوروبا أكثر مما يجتهد في محاربة "التطرّف" الإسلامي، بل إن الجرائم ضد اليهود ارتفعت أضعافاً مضاعفة في عهد ترامب الميمون. وما سيأتي سيكون أفظع. فقد أصبح التطرّف الإسرائيلي وربيبه الأميركي وبالاً على الطرفين، وأداة تدمير متبادل بين أميركا وإسرائيل. وقد أعذر من أنذر.
عبد الوهاب الأفندي
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
عبد الوهاب الأفندي
مقالات أخرى
04 نوفمبر 2023
14 أكتوبر 2023
09 سبتمبر 2023