01 نوفمبر 2024
الزلازل الثلاثة
كتبت مقالة فيما سبق عن الذين اعتادوا أن يتهموا الشعب المصري، ويحاولون التقليل من شأنه، بل وإدانته من كونه شعبا يتعايش مع الذل والإذلال، ومع القهر والعبودية، وكانت بعنوان "لا تسبوا الشعب". واليوم أجد تفسيرا أساسيا لهذه المقولة التي أحملها، وأقتنع بها، فأبدأ مقالتي بالحديث عن الشعب، وأنتهي منها بالحديث عن الوطن والمواطن. في هذا السياق، أقول إن الشعب فعل الكثير، وليس معنى أن يوجد ضمن هذا الشعب من قال أو فعل ما يؤكد أنه لا يقيم وزنا لأقرانه من المواطنين، أن نهجو الشعب بأسره، بل وأن نتهمه في كل مواقفه.
أقول إن هذا الشعب (المصري) وهذا الوطن قد مر بثلاثة أحداث جسام، كانت بمثابة زلازل قوية، وكان لها عدد من التوابع لا يعد أو يحصى، ونقول إن تلك الزلالزل المجتمعية والسياسية والثقافية لهي أشد تخريبا من الزلازل الطبيعية، بل إن ما ترتب عليها من قتل وحرق وخنق ومن اعتقال وحبس ومن اختطاف قسري وتعذيب أفضى إلى الموت، ومن قتل بطيء سُمّي في عرفهم "الإهمال الطبي"، وما هو بإهمال وإنما قتل متعمّد. ذلك أن تلك التوابع والمشاهد إنما تؤكد أن هذه الزلازل التي مرت على الشعب، في فترة وجيزة، تصل إلى ثلاث سنوات وما تبعها من أحداث، إنما يؤكد أن هذا الشعب تحمّل كثيرا، وأن هذا الوطن قد أضير أكثر، وأن العلاقات الاجتماعية توترت وبعضها تمزّق، وأن صناعة الكراهية أتت بعضا من آثارها السلبية والرهيبة على تماسك الجماعة الوطنية، ذلك كله لابد من أن نضعه في الحسبان، حينما نتحدث عن شعب مصر وعن مواقفه وعن أوصافه، فمن سب هذا الشعب هو أحق بالهجاء وأحق بالسب.
يتمثل الزلزال الأول في ثورة يناير المباركة، مجموع من الناس كانوا يتشوقون إلى ثورة
وتغيير، لكن حدث الثورة في 25 يناير فاجأ الجميع، بتحوله إلى طاقة ثورية شعبية في يوم جمعة الغضب في الثامن والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011؛ حيث تأكّد أن للثورة داعمين، وأن للتغيير ظهيراً شعبياَ لا يمكن بحال إنكاره.
قد يقول بعضهم إن الشعب قام بذلك بشكل مؤقت، لكنه عاد أدراجه يأنس بعبوديته، ويتكيف مع المستبد به، ويقع ضحية الخداع والكذب من إعلامٍ صار يقوم بعمله في غسل المخ بأعداد من ساعات البث، ومن برامج حوارية تحاول تصنيع مواقف الناس وأفكارهم. على الرغم من ذلك كله، أؤكد أن هذا الوصم من هؤلاء لهذا الشعب أمر شديد الظلم والظلمة، فقد يستندون إلى مشاهد هنا أو هناك، وقد يغرهم سكون هذا الشعب، عندما كان صامتا في عهد حسني مبارك، ولكن هذا الشعب الصابر يولد من جوفه شعب ثائر.
زلزال الثورة فاجأ الجميع، وليس معنى ذلك أنه لم تكن لثورة التغيير إرهاصات احتجاجية سابقة، مثل الجبهة الوطنية للتغيير وحركة كفاية والحركة الطلابية و6 إبريل و9 مارس والحركات النقابية والعمالية، كل ذلك كان بحق يشكل إرهاصات احتجاجية مهمة للطلب على التغيير، وعدم الرضا بهذا الأمر الواقع الذي فرض عليهم بأكثر من ثلاثين عاما، ولكن المفاجأة لعموم الناس هي أن تتحوّل تلك الاحتجاجات إلى حالة ثورية شاملة، تشمل الميادين وإصرار طلائع شباب الثورة على تنحّي حسني مبارك "المخلوع"، وعلى ضرورة إسقاط نظامه، كانت تلك المفاجأة بمثابة زلزال كبير فتح أشواق الأمل، وطرق أبواب التغيير، وفتح آفاقا لثورة مكتملة تقوم على استراتيجية تغيير جذري، في بنى المجتمع ومؤسساته.
فتح الباب لإمكانية حل كل المشكلات التي تتعلق بالجماعة الوطنية، وقدمت إجابات لمعظم الأسئلة التي حارت في الإجابة عليها أكثر من قرنين، مثل إشكال الهوية، وإشكال المشاركة، وإشكال المرأة، وإشكال الشباب، فتحت الثورة الباب واسعا لعملية تغيير شاملة، إلا أن هذا الزلزال الذي فاجأ الجميع من دون عدة وإعداد، من دون فكرة أو مشروع، من دون نخبة حقيقية وقيادة، فبدت الأمور تستند إلى بعض أفكار رومانسية لم تكن قادرةً أو كافيةً لإدارة ثورة حقيقية وعملية تغيير جذرية.
أما الزلزال الثاني، فإنه يتعلق بزلزال الانقلاب، بل إن ثورة لن تستمر في أحوالها إلا سنتين؛ سنة أممها المجلس العسكري لمصالح المؤسسة العسكرية، وسنة أخرى تجمع من تجمع لتعمد إحداث فشل كبير للسلطة المنتخبة، لكن ذلك لا يعفي تلك السلطة من أنها كان لديها فروق توقيت وفروق سرعات، وهو أمر أدى إلى أن معظم السياسات والقرارات لم تكن تكافئ الحالة الثورية ومتطلباتها، كما أن إدارة الأزمة والفرصة لم تكن على النحو المأمول، ولم تحقق تمكينا لهذه الثورة وإنجازاتها، وتكريسا لأهداف الثورة وشعاراتها.
شكل الانقلاب ضمن استراتيجية الثورة المضادة أخطر خطوة فيها، واتخذت من أركان الدولة
العميقة ومؤسسة العسكر العميقة سندا وعونا، واستطاع كل هؤلاء أن يمارسوا ثورة مضادة، استندت، في هذا المقام، إلى بيئة إقليمية داعمة، وإلى بيئة دولية مواتية، وظل الأمر الذي يتعلق بالتخوف من حكم الإسلاميين ضمن ممارسات في الداخل، إن صح التعبير "إخوانوفوبيا".
هكذا مهد ذلك كله، مع تمكّن حالة الاستقطاب والفرقة والفشل الذريع للنخبة، إلى نجاح الثورة المضادة، بعد أن استطاع كل هؤلاء تجميع مؤسسات الدولة العميقة، وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية، كذلك فلول النظام البائد الذي ترعرع ضمن منظومة استبداد مبارك وفساده، كما استغل بعض هؤلاء من الشباب الذين مارسوا انتقادا واحتجاجا واسعا ضد سياسات "الإخوان المسلمين" والرئيس المنتخب، محمد مرسي، وصنف آخر من الشباب استخدمته الأجهزة الأمنية، مثل حركة تمرّد، حتى يمكن حبك العملية التي بدأت بتلك الحشود لـ "30 يونيو"، والتي لم تكن إلا تمهيدا وغطاء لانقلاب "3 يوليو" الذي جاء ليهزم آمال الناس في الثورة، ويتوج عمل الثورة المضادة بتطويق الثورة المباركة، والالتفاف عليها، تمهيدا لإجهاضها ضمن عمليات متوالية من التشويه والتزييف، وبرز الانقلاب محاولا تجميل صورته في ثوب احتشاد جماهيري، سمّاها ثورة وما هي بثورة، لكنه عمل استغله العسكر ووجد غطاء جماهيريا لفعلته، وحقق كل أهدافه ومقاصده، وظل بعضهم مصرّا على ألا يطلق على ما حدث في 3 يوليو/ تموز 2013 وصف الانقلاب، لا ندري هل كان ذلك تردّدا أم غفلة أم جهلا أم تعمدّا، في كل الأحوال مثل ذلك كله دعما وسندا للحالة الانقلابية، صاحبه دعم وتأييد إقليمي ودولي.
قامت الثورة المضادة بكل ما استطاعت من قوة بمحاولاتها زراعة اليأس، وصناعة الفرقة ونشر حالة الكراهية، حاولت أن تستند إلى ذلك الانقسام في تأييد سلطة الانقلاب، ضمن تشكيلات الدولة البوليسية والفاشية العسكرية، وبدا الأمر، في النهاية، بمشهد تحكّم فيه العسكر بكل طاقتهم، في محاولة لتعميم القهر وإحداث حالة من التفزيع والترويع، زلزال عاجل الثورة الحقيقية، ولم يترك لها مكانا لحركة طبيعية ضمن مسار ديمقراطي مكين، وضمن حالة تغيير جذرية وجب أن تكون.
أما الزلزال الثالث فتمثل في اختبار الإنسانية، متمثلا في مذبحة ميدان رابعة العدوية وأخواتها، والذي قدم فرزا حقيقيا لهؤلاء الذين ولغوا في الدم، وهؤلاء الذين ساهموا فيه، بل أكثر من ذلك، دعموا ذلك، وساندوه فيما سُمي "التفويض" الباطل الذي استند إليه المنقلب، لاستكمال استراتيجيته في الترويع والتفزيع، فارتكب الحرق والخنق والقنص والقتل، وكماً من الأفعال، وبدأ يصنع جدارا سميكا من الخوف.
هكذا كانت الزلازل الثلاثة التي تحرّكت ضمن حالة تحار فيها النفوس والعقول، وحالة الحزن للشخوص والنخب، وكان ذلك كله بمثابة زلازل كبرى مؤثرة، سنتحدث عن آثارها في تشكيل نظام 3 يوليو الذي يتحقق فيه كل ما يتعلق بتخريب الوطن ومكانته، وإذلال المواطن وإعدام كرامته.
أقول إن هذا الشعب (المصري) وهذا الوطن قد مر بثلاثة أحداث جسام، كانت بمثابة زلازل قوية، وكان لها عدد من التوابع لا يعد أو يحصى، ونقول إن تلك الزلالزل المجتمعية والسياسية والثقافية لهي أشد تخريبا من الزلازل الطبيعية، بل إن ما ترتب عليها من قتل وحرق وخنق ومن اعتقال وحبس ومن اختطاف قسري وتعذيب أفضى إلى الموت، ومن قتل بطيء سُمّي في عرفهم "الإهمال الطبي"، وما هو بإهمال وإنما قتل متعمّد. ذلك أن تلك التوابع والمشاهد إنما تؤكد أن هذه الزلازل التي مرت على الشعب، في فترة وجيزة، تصل إلى ثلاث سنوات وما تبعها من أحداث، إنما يؤكد أن هذا الشعب تحمّل كثيرا، وأن هذا الوطن قد أضير أكثر، وأن العلاقات الاجتماعية توترت وبعضها تمزّق، وأن صناعة الكراهية أتت بعضا من آثارها السلبية والرهيبة على تماسك الجماعة الوطنية، ذلك كله لابد من أن نضعه في الحسبان، حينما نتحدث عن شعب مصر وعن مواقفه وعن أوصافه، فمن سب هذا الشعب هو أحق بالهجاء وأحق بالسب.
يتمثل الزلزال الأول في ثورة يناير المباركة، مجموع من الناس كانوا يتشوقون إلى ثورة
قد يقول بعضهم إن الشعب قام بذلك بشكل مؤقت، لكنه عاد أدراجه يأنس بعبوديته، ويتكيف مع المستبد به، ويقع ضحية الخداع والكذب من إعلامٍ صار يقوم بعمله في غسل المخ بأعداد من ساعات البث، ومن برامج حوارية تحاول تصنيع مواقف الناس وأفكارهم. على الرغم من ذلك كله، أؤكد أن هذا الوصم من هؤلاء لهذا الشعب أمر شديد الظلم والظلمة، فقد يستندون إلى مشاهد هنا أو هناك، وقد يغرهم سكون هذا الشعب، عندما كان صامتا في عهد حسني مبارك، ولكن هذا الشعب الصابر يولد من جوفه شعب ثائر.
زلزال الثورة فاجأ الجميع، وليس معنى ذلك أنه لم تكن لثورة التغيير إرهاصات احتجاجية سابقة، مثل الجبهة الوطنية للتغيير وحركة كفاية والحركة الطلابية و6 إبريل و9 مارس والحركات النقابية والعمالية، كل ذلك كان بحق يشكل إرهاصات احتجاجية مهمة للطلب على التغيير، وعدم الرضا بهذا الأمر الواقع الذي فرض عليهم بأكثر من ثلاثين عاما، ولكن المفاجأة لعموم الناس هي أن تتحوّل تلك الاحتجاجات إلى حالة ثورية شاملة، تشمل الميادين وإصرار طلائع شباب الثورة على تنحّي حسني مبارك "المخلوع"، وعلى ضرورة إسقاط نظامه، كانت تلك المفاجأة بمثابة زلزال كبير فتح أشواق الأمل، وطرق أبواب التغيير، وفتح آفاقا لثورة مكتملة تقوم على استراتيجية تغيير جذري، في بنى المجتمع ومؤسساته.
فتح الباب لإمكانية حل كل المشكلات التي تتعلق بالجماعة الوطنية، وقدمت إجابات لمعظم الأسئلة التي حارت في الإجابة عليها أكثر من قرنين، مثل إشكال الهوية، وإشكال المشاركة، وإشكال المرأة، وإشكال الشباب، فتحت الثورة الباب واسعا لعملية تغيير شاملة، إلا أن هذا الزلزال الذي فاجأ الجميع من دون عدة وإعداد، من دون فكرة أو مشروع، من دون نخبة حقيقية وقيادة، فبدت الأمور تستند إلى بعض أفكار رومانسية لم تكن قادرةً أو كافيةً لإدارة ثورة حقيقية وعملية تغيير جذرية.
أما الزلزال الثاني، فإنه يتعلق بزلزال الانقلاب، بل إن ثورة لن تستمر في أحوالها إلا سنتين؛ سنة أممها المجلس العسكري لمصالح المؤسسة العسكرية، وسنة أخرى تجمع من تجمع لتعمد إحداث فشل كبير للسلطة المنتخبة، لكن ذلك لا يعفي تلك السلطة من أنها كان لديها فروق توقيت وفروق سرعات، وهو أمر أدى إلى أن معظم السياسات والقرارات لم تكن تكافئ الحالة الثورية ومتطلباتها، كما أن إدارة الأزمة والفرصة لم تكن على النحو المأمول، ولم تحقق تمكينا لهذه الثورة وإنجازاتها، وتكريسا لأهداف الثورة وشعاراتها.
شكل الانقلاب ضمن استراتيجية الثورة المضادة أخطر خطوة فيها، واتخذت من أركان الدولة
هكذا مهد ذلك كله، مع تمكّن حالة الاستقطاب والفرقة والفشل الذريع للنخبة، إلى نجاح الثورة المضادة، بعد أن استطاع كل هؤلاء تجميع مؤسسات الدولة العميقة، وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية، كذلك فلول النظام البائد الذي ترعرع ضمن منظومة استبداد مبارك وفساده، كما استغل بعض هؤلاء من الشباب الذين مارسوا انتقادا واحتجاجا واسعا ضد سياسات "الإخوان المسلمين" والرئيس المنتخب، محمد مرسي، وصنف آخر من الشباب استخدمته الأجهزة الأمنية، مثل حركة تمرّد، حتى يمكن حبك العملية التي بدأت بتلك الحشود لـ "30 يونيو"، والتي لم تكن إلا تمهيدا وغطاء لانقلاب "3 يوليو" الذي جاء ليهزم آمال الناس في الثورة، ويتوج عمل الثورة المضادة بتطويق الثورة المباركة، والالتفاف عليها، تمهيدا لإجهاضها ضمن عمليات متوالية من التشويه والتزييف، وبرز الانقلاب محاولا تجميل صورته في ثوب احتشاد جماهيري، سمّاها ثورة وما هي بثورة، لكنه عمل استغله العسكر ووجد غطاء جماهيريا لفعلته، وحقق كل أهدافه ومقاصده، وظل بعضهم مصرّا على ألا يطلق على ما حدث في 3 يوليو/ تموز 2013 وصف الانقلاب، لا ندري هل كان ذلك تردّدا أم غفلة أم جهلا أم تعمدّا، في كل الأحوال مثل ذلك كله دعما وسندا للحالة الانقلابية، صاحبه دعم وتأييد إقليمي ودولي.
قامت الثورة المضادة بكل ما استطاعت من قوة بمحاولاتها زراعة اليأس، وصناعة الفرقة ونشر حالة الكراهية، حاولت أن تستند إلى ذلك الانقسام في تأييد سلطة الانقلاب، ضمن تشكيلات الدولة البوليسية والفاشية العسكرية، وبدا الأمر، في النهاية، بمشهد تحكّم فيه العسكر بكل طاقتهم، في محاولة لتعميم القهر وإحداث حالة من التفزيع والترويع، زلزال عاجل الثورة الحقيقية، ولم يترك لها مكانا لحركة طبيعية ضمن مسار ديمقراطي مكين، وضمن حالة تغيير جذرية وجب أن تكون.
أما الزلزال الثالث فتمثل في اختبار الإنسانية، متمثلا في مذبحة ميدان رابعة العدوية وأخواتها، والذي قدم فرزا حقيقيا لهؤلاء الذين ولغوا في الدم، وهؤلاء الذين ساهموا فيه، بل أكثر من ذلك، دعموا ذلك، وساندوه فيما سُمي "التفويض" الباطل الذي استند إليه المنقلب، لاستكمال استراتيجيته في الترويع والتفزيع، فارتكب الحرق والخنق والقنص والقتل، وكماً من الأفعال، وبدأ يصنع جدارا سميكا من الخوف.
هكذا كانت الزلازل الثلاثة التي تحرّكت ضمن حالة تحار فيها النفوس والعقول، وحالة الحزن للشخوص والنخب، وكان ذلك كله بمثابة زلازل كبرى مؤثرة، سنتحدث عن آثارها في تشكيل نظام 3 يوليو الذي يتحقق فيه كل ما يتعلق بتخريب الوطن ومكانته، وإذلال المواطن وإعدام كرامته.