27 سبتمبر 2018
صعود اليمين الشعبوي ومأزق الهيمنة
كأننا على أبواب صعود اليمين الشعبوي. وكأن العالم يسير نحو "انسجامٍ" جديد بين قوى يمينية تصل إلى السلطة في عدة بلدان رأسمالية. وكأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، هو المحور الذي بات يجمع كل هؤلاء، ليظهر أن محوراً يمكن أن يتشكّل من فرنسا مارين لوبين إلى أميركا دونالد ترامب، مروراً بدول أخرى ربما تتهيأ لوصول اليمين إلى السلطة فيها. وكأننا على أبواب حربٍ عالميةٍ نتيجة هذا الاصطفاف، خصوصاً أن هذا اليمين يعلي من "صوت المدافع"، فقد نجح ترامب في أميركا وهو يحمل خطاباً شعبوياً. ومالت بريطانيا قبل ذلك إلى "التقوقع"، بعد التصويت على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وتُنافِس مارين لوبين على الرئاسة في فرنسا، ومن المتوقع أن تجتاز الدور الأول، وربما تفاجئ، كما حدث مع ترامب. وكانت هولندا مهدّدة بانتصار اليمين الشعبوي، ولا زالت النمسا مهدّدة بانتصار لليمين الشعبوي، وربما كذلك عدد من دول أوروبا الشرقية.
ما يميّز هذا اليمين هو الإعلاء من "قيم الوطنية"، وفرضها في المستوى الاقتصادي، حيث يسعى إلى التحرّر من "فوضى العولمة"، وتجاوز "التحرّر" الشديد الذي طبع مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والتي تعمّمت أفكارها تحت عنوان: العولمة. حمل ترامب في جعبته تصوراتٍ حول إلغاء الاتفاقيات التجارية التي كانت أهم ما تحقق في العقد الأخير من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. اتفاقات منظمة التجارة العالمية، واتفاقات النافتا وغيرها. وشدّد على "وطنية" الصناعة الأميركية، حيث أشار إلى ضرورة منع انتقالها إلى الخارج، مع فرض ضرائب على تلك الصناعات التي "هاجرت"، لكي تستفيد من رخص الأيدي العاملة. معلناً "أميركا أولاً". وتميل لوبين، منذ زمن طويل، إلى "الانكفاء" بالتخلي عن الاتحاد الأوروبي وإعلان "فرنسا أولاً"، وهو حال كل اليمين الشعبوي الأوروبي الذي يميل إلى ضبط "حدوده القومية" في مواجهة "تغوّل العولمة"، وإيجاد ظروف عالمية تُضعف اقتصادات البلدان التي ينشأ فيها هذا اليمين. وتعلن روسيا بوتين منذ سنوات أن "روسيا أولاً"، وهي تتوسع بالفعل عسكرياً، وباتت المثال لكل هذا اليمين الذي يسعى إلى السيطرة على العالم، فيما يعتبر بلده أولاً.
لقد أدت العولمة التي عنت انفتاحاً شاملاً سمح بالقول إن العالم بات يشكّل سوقاً واحدة إلى اختلالاتٍ في التنافس، هدَّد قطاعات اقتصادية أساسية في مجمل البلدان الرأسمالية، فقد هيمنت الطغم المالية وصاغت العولمة في حدود مصالحها، الأمر الذي أضرَّ قطاعاتٍ اقتصادية في دول رأسمالية عديدة، وأضرَّت فئات شعبية فقدت فرص العمل. هذا ما أسَّس لأن ينشأ اليمين الشعبوي الذي يريد التخلّص من العولمة، وإعادة بناء الدولة قوةً تريد الهيمنة عالمياً، لفرض مصالح تلك الفئات المتضرّرة، والتي باتت مأزومة. فقد انهارت قطاعات صناعية في المراكز، بعد أن جرى نقل قطاعات أخرى إلى دول تتسم بوجود "عمالة رخيصة"، وهو الأمر الذي سمح بزيادة تركّز القطاع المالي، وتحكمه في مجمل العملية الاقتصادية. ويريد هذا القطاع حريةً مطلقة لحركة الرأسمال. وبالتالي، كان مع "التحرير الشامل" للاقتصاد، بغض النظر عن انعكاسه على القطاعات الأخرى. وباتت الشركات الكبرى هي التي تتحكّم بالسوق العالمي، الأمر الذي وضع الشركات الأصغر في حالة تدهور. وأصبح التنافس مضرّاً لقطاعات اقتصادية في كل البلدان الرأسمالية، الأمر الذي أوجد وضعاً متأزماً لقطاع اقتصادي كبير. لكنه كذلك دلّ على أزمة مجتمعية، نتيجة التمركز العالي للشركات، وانهيار الشركات الصغرى، حيث تقلصت فرص العمل، وتدنت الأجور.
يشير ذلك كله إلى صراعاتٍ في الرأسمالية بين قطاعات استفادت من العولمة (ربما هي من صنعها، وأقصد الطغم المالية التي باتت تنشط في المضاربات)، وتلك التي تضرّرت منها، وهي تشمل قطاعاتٍ صناعيةً وتجاريةً وخدمية. وهو ما يعني أن الصراع بين الرأسماليات سوف يكون، في كل دولة من هذه الدول، بين قطاعات رأسمالية. لكن، يبدو أن انعكاس التكوين الاقتصادي المهيمن على المجتمع، حيث البطالة أو الخوف منها، وحيث تدنّي الأجور، جعل القطاع الأضعف في الرأسمالية يلقى تجاوباً "شعبياً". وأن تكون "الوطنية" هي الغلاف الذي يوجد الوحدة بين الرأسمالية التي تشعر بالانهيار والقطاع الشعبي الذي يحسّ بأنه على شفير الانهيار. وربما يكون ذلك أساس نشوء هذا اليمين، وطابعه الشعبوي. لا نعرف أي البلدان سوف يترسّخ فيها هذا اليمين، لأن تكوينات الدول الرأسمالية مختلفة من حيث هيمنة الطغم المالية ودور الصناعة في الاقتصاد. وبالتالي، مدى الأزمة التي تعيشها القطاعات الاقتصادية نتيجة التأثّر بالعولمة. لكن، لا يبدو أن أميركا قادرة على تحمّل يمين شعبوي، بعد أن بات اقتصادها مالياً. كذلك بريطانيا. أما ألمانيا فتبدو بعيدةً عن سيطرة يمين شعبوي، ربما تقع فرنسا في هذا المطبّ، على الرغم من أن الميل يسير نحو "تكاتف" يسار الوسط، وتبدو فرنسا اليمين هي الأكثر ميلاً إلى التحالف مع روسيا، بعد أن كانت ألمانيا هي التي تميل إلى التقارب مع روسيا، وكان بينهما علاقات جيدة، لكن ميل روسيا التوسعي في شرق أوروبا، ومحاولة السيطرة على أوكرانيا، كان يهدّد السيطرة الألمانية، ولهذا ظهر الموقف الألماني الذي يوافق أميركا على معاقبة روسيا.
هنا، لا بد من ملاحظة التناقضات في الرأسمالية "القومية"، وما يمكن أن تفضي إليه، حيث ليس مؤكداً سيطرتها في عالمٍ بات معولماً تحت سيطرة الطغم المالية، على الرغم من أنه مأزوم بشكلٍ لا مثيل له. فالأزمة هي التي تنتج اليمين الشعبوي، كما حدث في الماضي، حيث قادت إلى تنامي "النزعة القومية"، وإلى الحربين العالميتين الأولى والثانية. كانت أزمة ألمانيا، كبلد مهزوم في الحرب الأولى، ومأزوم نتيجة الانهيار الاقتصادي الذي طالها، وأصلاً نتيجة حاجة رأسماليتها إلى التوسع، هو الذي قاد إلى نجاح النازية. وهو الأمر الذي عانت منه إيطاليا واليابان. لكن، هل يمكن أن تقود الأزمة الحالية إلى وصول اليمين الشعبوي؟
أشرت إلى ضعف هذه الاحتمالية، ولا شك في أن ردود الفعل على نجاحه في أميركا تدفع إلى تحالفات و"بدائل" تمنع وصوله، على الرغم من تصاعد قوته. لكن، يبقى السؤال الجوهري هنا: هل يستطيع اليمين الشعبوي الحكم؟ لقد نجح في أميركا، ولا يبدو أن "وول ستريت" سوف تجعل ترامب يحكم وفق منظوره. وعلى الرغم من جدية منافسة لوبين في فرنسا يبدو أن صدمة ترامب فرضت أن تكون النتيجة في غير صالحها، كما لم ينجح اليمين الشعبوي في هولندا. لا شك في أن تشابك العالم، وهيمنة الطغم المالية، لا يسمحان بانتصار "النزعة القومية" القائمة على "رفض التحرّرية"، وفرض القيود على التبادلات التجارية. وحين تسمح الأزمة الداخلية بوصول رئيس شعبوي، سوف تميل الطغم المالية إلى "ضبطه" أو طرده، فهذه الطغم لم تعد تستطيع الوجود والتوسع، إلا في الوضع الاقتصادي العالمي. في عالم مفتوح. وهي تريد تعزيز هيمنتها العالمية. وهذا ما تتوافق به مع اليمين الشعبوي، على الرغم من اختلاف السياسات، حيث يريد تعزيز سيطرته العالمية، لكن من خلال "قوة الدولة"، الدولة التي يفكّر في إعادة بنائها في الحدود القومية، ويعيد إليها مجدها الاقتصادي الداخلي، بعد أن أخذت القوى المنتجة تتلاشى، نتيجة انتقالها إلى بعض البلدان رخيصة العمالة.
وإذ يبدو أن اليمين الشعبوي يميل إلى الوحدة، حيث يُظهر حبه بوتين، وميله إلى التحالف مع هذا الرجل، فإن "نزعة العزة القومية"، وميل هذه القطاعات من الرأسمالية، في حال استلامها السلطة، إلى تعزيز قوة الدولة في مواجهة الدول الأخرى، وسعيها إلى تحقيق مصالحها عالمياً، لن تؤدي إلى تحالفها، بل ربما إلى تصارعها. فكل دولة يمكن أن يحكمها هذا اليمين سوف تسعى إلى تعزيز مصالحها القومية، وتحسين سيطرتها العالمية، فليس من الممكن بناء اقتصاد قومي قوي، إلا عبر التوسع عالمياً. هذا الأمر يعني العودة إلى التنافس على الأسواق والمواد الأولية، والتسابق على السيطرة على البلدان الأخرى. وبهذا، فإن "حُب بوتين" لن يفيد في تشكيل تحالفٍ يجمعها، لأنه كذلك يسعى إلى السيطرة من أجل احتكار الأسواق والتحكّم بالمواد الأولية.
يمكن أن نصل هنا إلى أن اليمين الشعبوي يمثل الشكل القديم لسيطرة الرأسمالية، القائم على دور الدولة في التوسع والسيطرة، وحيث يكون استخدام القوة المسلحة ضرورة. وهذا ما تمثله أصلاً روسيا بوتين، حيث إن ضعف وضعها الاقتصادي العالمي، نتيجة سيطرة الرأسماليات الأخرى على العالم، يدفعها إلى القوة من أجل فرض سيطرتها. ولأجل ذلك، تستخدم "النزعة القومية". وربما يكون ذلك تعبيراً عن عمق أزمة الرأسمالية، وتصاعد تناقضاتها، حيث إنها باتت "مالية"، ما يجعلها في حالة انهيار متكرّر، وفي تناقضات داخلية، نتيجة هيمنة الطابع المالي وتهميش قطاعات اقتصادية. وفي كل الأحوال، فإن كل أطرافها لا تجد حلاً لمشكلاتها إلا بالتوسع الخارجي، والميل إلى تعزيز السيطرة على الاقتصاد العالمي.
بالتالي، تنتج أزمة الرأسمالية التفكك الداخلي بين فئاتٍ في الطبقة الرأسمالية ذاتها، وتصارعها، كما أنها تنتج تناقضاتٍ عالمية، نتيجة الميل إلى السيطرة لكل رأسمالية منها، حيث إن التناقضات الداخلية تتعلق بطرق الهيمنة الخارجية، وتنطلق من طبيعة البناء الداخلي الذي يسمح بهذه الهيمنة. وهذا ما يعني العودة إلى التصارع العالمي، كما كان في المرحلة السابقة لانقسام العالم إلى معسكرين، رأسمالي موحد واشتراكي.
وما سيؤثر على ذلك كله هو الأزمة العميقة التي تعيشها الرأسمالية، بعد أن هيمنت الطغم المالية، وأصبح الطابع المالي هو المسيطر فيها، حيث إن حدوث انهيار مالي جديد، وهو أمر بات طبيعياً بعد هيمنة الطابع المالي، سوف يقود إلى تفاقم التناقضات الداخلية في بنية الرأسمالية في كل دولة، وفي الشره للسيطرة الخارجية كذلك. وسوف يصعّد هذا الأمر من تناقضات الرأسمالية، ويُبقي كل احتمالات التحالف قائمة. لهذا، قد يتعزّز أكثر الشكل الشعبوي الذي يبرز الآن قوة يمكن أن تسيطر، ما سيفتح على صراعات عالمية كبيرة.
أشرت الى أن صعود اليمين الشعبوي هو نتاج أزمة الرأسمالية التي باتت مستمرة، حيث أظهرت العولمة تهميشاً لرأسماليةٍ محلية، وفتح الأسواق لكل الآثار المدمرة للمضاربات المالية، والأزمات التي تخلقها في بنية الرأسمالية. والتي أينما حدثت سوف تنعكس على كل الدول الرأسمالية. ولا شك في أن توسّع الأزمة مع حدوث انهياراتٍ جديدةٍ ربما تدفع إلى انتصاراتٍ أكبر لهذا التيار الشعبوي، على الرغم من أنه يمكن أن يقود كذلك إلى نشوء بدائل يسارية عبر انحياز الشعوب لخيارٍ يتجاوز الرأسمالية. في كل الأحوال، لا تبدو حظوظ اليمين الشعبوي كبيرة، نتيجة قوة الطغم المالية من طرف، والأزمة التي تُنتجها هذه القوة من طرف آخر، والتي سوف تدفع الشعوب يساراً.
ما يراد قوله هنا أن الأزمة التي غرقت الرأسمالية بها هي التي أنتجت اليمين الشعبوي، والذي ربما يصل إلى السلطة هنا أو هناك، وهذا ما يمكن أن يضع العالم على شفير صراعاتٍ وحشية. لكن، يمكن أن يقود عمق الأزمة واستمراريتها إلى نشوء بدائل أكثر جذرية، بالضبط لأن شره الرأسمالية يدفع الشعوب إلى الإفقار الأشد، وهو الأمر الذي يسمح بنشوء بديلٍ يطرح تجاوز الرأسمالية. وهو ما ظهر في نشوء "يسار جديد" في اليونان وإسبانيا، على الرغم من محدوديته، وكذلك في الميل اليساري في حزب العمال البريطاني، وما ظهر كذلك في التنافس ضمن الحزب الديمقراطي الأميركي. ولا شك في أن ذلك كله هو إرهاصات، وليست الشكل النهائي ليسار جديد، هذا اليسار الذي سيكون نتيجة عمق أزمة الرأسمالية، والذي سيتأسّس وفق منظور تجاوزها.
الرأسمالية في أزمة عميقة، ولا شك في أن الرد الأولي يتمثل في صعود اليمين الشعبوي. لكن، ليس من الممكن أن يتمكّن هذا اليمين من السيطرة، على الرغم من أن الأزمة يمكن أن تدفع الرأسماليات من جديد إلى تحالفات جديدة، وسياسات متطرّفة تقوم على التهديد بالحروب.
ما يميّز هذا اليمين هو الإعلاء من "قيم الوطنية"، وفرضها في المستوى الاقتصادي، حيث يسعى إلى التحرّر من "فوضى العولمة"، وتجاوز "التحرّر" الشديد الذي طبع مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والتي تعمّمت أفكارها تحت عنوان: العولمة. حمل ترامب في جعبته تصوراتٍ حول إلغاء الاتفاقيات التجارية التي كانت أهم ما تحقق في العقد الأخير من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. اتفاقات منظمة التجارة العالمية، واتفاقات النافتا وغيرها. وشدّد على "وطنية" الصناعة الأميركية، حيث أشار إلى ضرورة منع انتقالها إلى الخارج، مع فرض ضرائب على تلك الصناعات التي "هاجرت"، لكي تستفيد من رخص الأيدي العاملة. معلناً "أميركا أولاً". وتميل لوبين، منذ زمن طويل، إلى "الانكفاء" بالتخلي عن الاتحاد الأوروبي وإعلان "فرنسا أولاً"، وهو حال كل اليمين الشعبوي الأوروبي الذي يميل إلى ضبط "حدوده القومية" في مواجهة "تغوّل العولمة"، وإيجاد ظروف عالمية تُضعف اقتصادات البلدان التي ينشأ فيها هذا اليمين. وتعلن روسيا بوتين منذ سنوات أن "روسيا أولاً"، وهي تتوسع بالفعل عسكرياً، وباتت المثال لكل هذا اليمين الذي يسعى إلى السيطرة على العالم، فيما يعتبر بلده أولاً.
لقد أدت العولمة التي عنت انفتاحاً شاملاً سمح بالقول إن العالم بات يشكّل سوقاً واحدة إلى اختلالاتٍ في التنافس، هدَّد قطاعات اقتصادية أساسية في مجمل البلدان الرأسمالية، فقد هيمنت الطغم المالية وصاغت العولمة في حدود مصالحها، الأمر الذي أضرَّ قطاعاتٍ اقتصادية في دول رأسمالية عديدة، وأضرَّت فئات شعبية فقدت فرص العمل. هذا ما أسَّس لأن ينشأ اليمين الشعبوي الذي يريد التخلّص من العولمة، وإعادة بناء الدولة قوةً تريد الهيمنة عالمياً، لفرض مصالح تلك الفئات المتضرّرة، والتي باتت مأزومة. فقد انهارت قطاعات صناعية في المراكز، بعد أن جرى نقل قطاعات أخرى إلى دول تتسم بوجود "عمالة رخيصة"، وهو الأمر الذي سمح بزيادة تركّز القطاع المالي، وتحكمه في مجمل العملية الاقتصادية. ويريد هذا القطاع حريةً مطلقة لحركة الرأسمال. وبالتالي، كان مع "التحرير الشامل" للاقتصاد، بغض النظر عن انعكاسه على القطاعات الأخرى. وباتت الشركات الكبرى هي التي تتحكّم بالسوق العالمي، الأمر الذي وضع الشركات الأصغر في حالة تدهور. وأصبح التنافس مضرّاً لقطاعات اقتصادية في كل البلدان الرأسمالية، الأمر الذي أوجد وضعاً متأزماً لقطاع اقتصادي كبير. لكنه كذلك دلّ على أزمة مجتمعية، نتيجة التمركز العالي للشركات، وانهيار الشركات الصغرى، حيث تقلصت فرص العمل، وتدنت الأجور.
يشير ذلك كله إلى صراعاتٍ في الرأسمالية بين قطاعات استفادت من العولمة (ربما هي من صنعها، وأقصد الطغم المالية التي باتت تنشط في المضاربات)، وتلك التي تضرّرت منها، وهي تشمل قطاعاتٍ صناعيةً وتجاريةً وخدمية. وهو ما يعني أن الصراع بين الرأسماليات سوف يكون، في كل دولة من هذه الدول، بين قطاعات رأسمالية. لكن، يبدو أن انعكاس التكوين الاقتصادي المهيمن على المجتمع، حيث البطالة أو الخوف منها، وحيث تدنّي الأجور، جعل القطاع الأضعف في الرأسمالية يلقى تجاوباً "شعبياً". وأن تكون "الوطنية" هي الغلاف الذي يوجد الوحدة بين الرأسمالية التي تشعر بالانهيار والقطاع الشعبي الذي يحسّ بأنه على شفير الانهيار. وربما يكون ذلك أساس نشوء هذا اليمين، وطابعه الشعبوي. لا نعرف أي البلدان سوف يترسّخ فيها هذا اليمين، لأن تكوينات الدول الرأسمالية مختلفة من حيث هيمنة الطغم المالية ودور الصناعة في الاقتصاد. وبالتالي، مدى الأزمة التي تعيشها القطاعات الاقتصادية نتيجة التأثّر بالعولمة. لكن، لا يبدو أن أميركا قادرة على تحمّل يمين شعبوي، بعد أن بات اقتصادها مالياً. كذلك بريطانيا. أما ألمانيا فتبدو بعيدةً عن سيطرة يمين شعبوي، ربما تقع فرنسا في هذا المطبّ، على الرغم من أن الميل يسير نحو "تكاتف" يسار الوسط، وتبدو فرنسا اليمين هي الأكثر ميلاً إلى التحالف مع روسيا، بعد أن كانت ألمانيا هي التي تميل إلى التقارب مع روسيا، وكان بينهما علاقات جيدة، لكن ميل روسيا التوسعي في شرق أوروبا، ومحاولة السيطرة على أوكرانيا، كان يهدّد السيطرة الألمانية، ولهذا ظهر الموقف الألماني الذي يوافق أميركا على معاقبة روسيا.
هنا، لا بد من ملاحظة التناقضات في الرأسمالية "القومية"، وما يمكن أن تفضي إليه، حيث ليس مؤكداً سيطرتها في عالمٍ بات معولماً تحت سيطرة الطغم المالية، على الرغم من أنه مأزوم بشكلٍ لا مثيل له. فالأزمة هي التي تنتج اليمين الشعبوي، كما حدث في الماضي، حيث قادت إلى تنامي "النزعة القومية"، وإلى الحربين العالميتين الأولى والثانية. كانت أزمة ألمانيا، كبلد مهزوم في الحرب الأولى، ومأزوم نتيجة الانهيار الاقتصادي الذي طالها، وأصلاً نتيجة حاجة رأسماليتها إلى التوسع، هو الذي قاد إلى نجاح النازية. وهو الأمر الذي عانت منه إيطاليا واليابان. لكن، هل يمكن أن تقود الأزمة الحالية إلى وصول اليمين الشعبوي؟
أشرت إلى ضعف هذه الاحتمالية، ولا شك في أن ردود الفعل على نجاحه في أميركا تدفع إلى تحالفات و"بدائل" تمنع وصوله، على الرغم من تصاعد قوته. لكن، يبقى السؤال الجوهري هنا: هل يستطيع اليمين الشعبوي الحكم؟ لقد نجح في أميركا، ولا يبدو أن "وول ستريت" سوف تجعل ترامب يحكم وفق منظوره. وعلى الرغم من جدية منافسة لوبين في فرنسا يبدو أن صدمة ترامب فرضت أن تكون النتيجة في غير صالحها، كما لم ينجح اليمين الشعبوي في هولندا. لا شك في أن تشابك العالم، وهيمنة الطغم المالية، لا يسمحان بانتصار "النزعة القومية" القائمة على "رفض التحرّرية"، وفرض القيود على التبادلات التجارية. وحين تسمح الأزمة الداخلية بوصول رئيس شعبوي، سوف تميل الطغم المالية إلى "ضبطه" أو طرده، فهذه الطغم لم تعد تستطيع الوجود والتوسع، إلا في الوضع الاقتصادي العالمي. في عالم مفتوح. وهي تريد تعزيز هيمنتها العالمية. وهذا ما تتوافق به مع اليمين الشعبوي، على الرغم من اختلاف السياسات، حيث يريد تعزيز سيطرته العالمية، لكن من خلال "قوة الدولة"، الدولة التي يفكّر في إعادة بنائها في الحدود القومية، ويعيد إليها مجدها الاقتصادي الداخلي، بعد أن أخذت القوى المنتجة تتلاشى، نتيجة انتقالها إلى بعض البلدان رخيصة العمالة.
وإذ يبدو أن اليمين الشعبوي يميل إلى الوحدة، حيث يُظهر حبه بوتين، وميله إلى التحالف مع هذا الرجل، فإن "نزعة العزة القومية"، وميل هذه القطاعات من الرأسمالية، في حال استلامها السلطة، إلى تعزيز قوة الدولة في مواجهة الدول الأخرى، وسعيها إلى تحقيق مصالحها عالمياً، لن تؤدي إلى تحالفها، بل ربما إلى تصارعها. فكل دولة يمكن أن يحكمها هذا اليمين سوف تسعى إلى تعزيز مصالحها القومية، وتحسين سيطرتها العالمية، فليس من الممكن بناء اقتصاد قومي قوي، إلا عبر التوسع عالمياً. هذا الأمر يعني العودة إلى التنافس على الأسواق والمواد الأولية، والتسابق على السيطرة على البلدان الأخرى. وبهذا، فإن "حُب بوتين" لن يفيد في تشكيل تحالفٍ يجمعها، لأنه كذلك يسعى إلى السيطرة من أجل احتكار الأسواق والتحكّم بالمواد الأولية.
يمكن أن نصل هنا إلى أن اليمين الشعبوي يمثل الشكل القديم لسيطرة الرأسمالية، القائم على دور الدولة في التوسع والسيطرة، وحيث يكون استخدام القوة المسلحة ضرورة. وهذا ما تمثله أصلاً روسيا بوتين، حيث إن ضعف وضعها الاقتصادي العالمي، نتيجة سيطرة الرأسماليات الأخرى على العالم، يدفعها إلى القوة من أجل فرض سيطرتها. ولأجل ذلك، تستخدم "النزعة القومية". وربما يكون ذلك تعبيراً عن عمق أزمة الرأسمالية، وتصاعد تناقضاتها، حيث إنها باتت "مالية"، ما يجعلها في حالة انهيار متكرّر، وفي تناقضات داخلية، نتيجة هيمنة الطابع المالي وتهميش قطاعات اقتصادية. وفي كل الأحوال، فإن كل أطرافها لا تجد حلاً لمشكلاتها إلا بالتوسع الخارجي، والميل إلى تعزيز السيطرة على الاقتصاد العالمي.
بالتالي، تنتج أزمة الرأسمالية التفكك الداخلي بين فئاتٍ في الطبقة الرأسمالية ذاتها، وتصارعها، كما أنها تنتج تناقضاتٍ عالمية، نتيجة الميل إلى السيطرة لكل رأسمالية منها، حيث إن التناقضات الداخلية تتعلق بطرق الهيمنة الخارجية، وتنطلق من طبيعة البناء الداخلي الذي يسمح بهذه الهيمنة. وهذا ما يعني العودة إلى التصارع العالمي، كما كان في المرحلة السابقة لانقسام العالم إلى معسكرين، رأسمالي موحد واشتراكي.
وما سيؤثر على ذلك كله هو الأزمة العميقة التي تعيشها الرأسمالية، بعد أن هيمنت الطغم المالية، وأصبح الطابع المالي هو المسيطر فيها، حيث إن حدوث انهيار مالي جديد، وهو أمر بات طبيعياً بعد هيمنة الطابع المالي، سوف يقود إلى تفاقم التناقضات الداخلية في بنية الرأسمالية في كل دولة، وفي الشره للسيطرة الخارجية كذلك. وسوف يصعّد هذا الأمر من تناقضات الرأسمالية، ويُبقي كل احتمالات التحالف قائمة. لهذا، قد يتعزّز أكثر الشكل الشعبوي الذي يبرز الآن قوة يمكن أن تسيطر، ما سيفتح على صراعات عالمية كبيرة.
أشرت الى أن صعود اليمين الشعبوي هو نتاج أزمة الرأسمالية التي باتت مستمرة، حيث أظهرت العولمة تهميشاً لرأسماليةٍ محلية، وفتح الأسواق لكل الآثار المدمرة للمضاربات المالية، والأزمات التي تخلقها في بنية الرأسمالية. والتي أينما حدثت سوف تنعكس على كل الدول الرأسمالية. ولا شك في أن توسّع الأزمة مع حدوث انهياراتٍ جديدةٍ ربما تدفع إلى انتصاراتٍ أكبر لهذا التيار الشعبوي، على الرغم من أنه يمكن أن يقود كذلك إلى نشوء بدائل يسارية عبر انحياز الشعوب لخيارٍ يتجاوز الرأسمالية. في كل الأحوال، لا تبدو حظوظ اليمين الشعبوي كبيرة، نتيجة قوة الطغم المالية من طرف، والأزمة التي تُنتجها هذه القوة من طرف آخر، والتي سوف تدفع الشعوب يساراً.
ما يراد قوله هنا أن الأزمة التي غرقت الرأسمالية بها هي التي أنتجت اليمين الشعبوي، والذي ربما يصل إلى السلطة هنا أو هناك، وهذا ما يمكن أن يضع العالم على شفير صراعاتٍ وحشية. لكن، يمكن أن يقود عمق الأزمة واستمراريتها إلى نشوء بدائل أكثر جذرية، بالضبط لأن شره الرأسمالية يدفع الشعوب إلى الإفقار الأشد، وهو الأمر الذي يسمح بنشوء بديلٍ يطرح تجاوز الرأسمالية. وهو ما ظهر في نشوء "يسار جديد" في اليونان وإسبانيا، على الرغم من محدوديته، وكذلك في الميل اليساري في حزب العمال البريطاني، وما ظهر كذلك في التنافس ضمن الحزب الديمقراطي الأميركي. ولا شك في أن ذلك كله هو إرهاصات، وليست الشكل النهائي ليسار جديد، هذا اليسار الذي سيكون نتيجة عمق أزمة الرأسمالية، والذي سيتأسّس وفق منظور تجاوزها.
الرأسمالية في أزمة عميقة، ولا شك في أن الرد الأولي يتمثل في صعود اليمين الشعبوي. لكن، ليس من الممكن أن يتمكّن هذا اليمين من السيطرة، على الرغم من أن الأزمة يمكن أن تدفع الرأسماليات من جديد إلى تحالفات جديدة، وسياسات متطرّفة تقوم على التهديد بالحروب.