04 نوفمبر 2024
هذا الطقس الشبابي الجديد في تونس
أصبحت "دخلة" البكالوريا المتزامنة مع الاختبارات الرياضية منذ سنوات قليلة إحدى الشعائر التي تنتظم بين شهري إبريل/ نيسان ومايو/ أيار، وهو موعد سنوي، يقتضي أن يستعد له التلاميذ فيما يشبه شعائر الطواف، فهو في جانب كبير منه يتميز بالتكتم والتستر وعدم الإفصاح عن محتواه، حتى لا يفقد طابعه التشويقي، ولا يكون عرضةً للمراقبة أو المنع، خصوصاً بعد أن تم تسجيل حالات متعددة من التجاوزات والحوادث الخطرة.
تفيد الدخلة، استناداً إلى اللهجة المحكية التونسية، زفة الليلة الختامية من حفل العرس، حيث ينتقل العروسان إلى منزلة اجتماعية أخرى، ويغادران العزوبية للانضمام إلى عالم المتزوجين. وربما لهذا السبب تحديداً، تم إطلاق هذه الكلمة على طقوس الاحتفالات التي ترافق اختبارات البكالوريا، إذ تعطي هذه الاحتفالات التي هي استعراض شبابي ضخم، تشهده المعاهد الثانوية، إشارة الانطلاق لتوديع مرحلة الثانوي والاستعداد لدخول مرحلة أخرى هي الجامعة، وهي ليست مجرد حقبة عمرية، أو مرحلة دراسية، إنما مشوار حياتي جديد ومختلف عما سبقه. لذلك، كانت الدخلة بهذا المعنى إحدى شعائر العبور.
ما يشدّنا، ونحن نتابع الدخلة، هو هذه القدرة الفائقة والهائلة التي يبديها الشباب التلمذي على تملك الفضاء المدرسي، و"احتلاله" بشكل واضح، حيث يتم تركيز علم الدخلة، وبعض الرايات الأخرى العملاقة، على أعلى البنايات المدرسية، ليصبح فضاءً محرّراً، ولو ساعات، في محاكاةٍ ضمنيةٍ لطقوس الإنزال العسكري الذي تقوم به فرق الطلائع عند احتلال الأماكن المستعصية وتحريرها، وكأن التلاميذ بذلك يثأرون من فضاءٍ يظل سنة كاملة مسخّراً للمربين، إذ يصبح المعهد بهذه الدخلة ملكهم، بعد أن كانوا مجرّد مستعملين له، وفي مساحاتٍ محدودة: الساحة والفصول، فعلى خلاف هذا التضييق، يتم تحرير كل الفضاء المدرسي و"استباحته". لذلك، يصر بعضهم على أن تبدأ الدخلة من تلك الفضاءات الرمزية، ذات القيمة أو "الممنوعة"، على غرار الأسطح وأعلى شرفات المعهد، قاعة الأستاذة إلخ. وقد يتمطط فضاء الدخلة، ليضم مساحاتٍ أخرى، على غرار الواجهات الخارجية للمعهد، أو حتى بعض البناءات المجاورة له.
فنيا ودلاليا، تضم الدخلة محاميل وتعبيرات فنية كبيرة، على شاكلة لوحات عملاقة ورايات
ولافتات وأعمال غرافيتي وتنصيبات، وغيرها من "الأعمال الفنية الجماعية"، وتتيح بذلك للطلاب المنافسة والتسابق من أجل إثبات الهويات الجماعية، وجعلها مرئية إلى حد الإبهار، وجلب الانتباه تعويضا عن تنافس مدرسي أحيانا، يسحق من فرط وطأته الهويات الفردية، وتجسّد الامتحانات. ومما يترتب عنها من ترتيب وحصول على العلامات والشهادات، بهذا المعنى، بينما على خلاف ذلك، تحول الدخلة المنافسات إلى مسابقات جماعية بين معاهد ومجموعاتٍ وجهاتٍ فيها أعمال جماعية، لا ينسب فيها النجاح إلى شخص، بل إلى مجموعات تعبر بذلك عن اختلاجات وأماني ورؤى جماعية فتطبع، ولو إلى حين، الهويات الجماعية لمدة معينة، خصوصاً أن وسائل التواصل الاجتماعي ومختلف التقنيات قد تكفلت، في السنوات الأخيرة، بنقل "هذه الدخلات"، حيث يتم تداولها بين الشباب على نطاق واسع. إنه استعراض ضخم للمواهب والقدرات والموارد والفنيات الجماعية، على خلاف التنافس المدرسي الذي فيه استعراض فردي للكفاءات المدرسية، كما أشير سابقا.
أما محتوى الدخلة ومضامينها، فإنه وعلى الرغم من اختلافها من معهد إلى آخر، ومن جهة إلى أخرى، فإنها ظلت موزعة تقريباً على سجلين كبيرين، هما: السجل السياسي الذي يضم التنديد بكل أشكال الاستبداد والظلم أينما حلت، من خلال مساندة القضية الفلسطينية واللاجئين السوريين وضحايا الإرهاب، وغيرها من المسائل الكونية العادلة.. إلخ، حيث تكشف الدخلة، على خلاف الصور النمطية التي تعوق الباحثين، أن الشباب يرتبط ذهنيا وعاطفيا بقضايا المضطهدين في العالم، وأساسا قضايا العالمين، العربي والإسلامي. وسجل ثان هو القضايا الاجتماعية الأخلاقية التي يطغى عليها الطابع المحلي، على غرار الفقر، البطالة، الخدمات الاجتماعية والصحية والفساد.. إلخ.
يمكن من قراءة عابرة لمجموع اللوحات والشعارات والرايات المرفوعة للدخلة ومحتواها أن
نستنتج، بشيء من التعميم، مفارقةً ما، فدخلات المدن الكبرى والحواضر، في جلها، منخرطة، إلى حد ما، في سجل مسائل اجتماعية وأخلاقية محلية، تجيز أحيانا تجاوزات ما للضمير الأخلاقي الجمعي، في حين تظل دخلات المناطق الداخلية معبرةً عن رسائل سياسية أممية في أحيان كثيرة، كما أشير سابقا، وذلك على خلاف توقعاتٍ تتسرع في ربط تلاميذ المناطق الداخلية بالشعور بالحرمان والتفاوت الجهوي، فهؤلاء، على خلاف ذلك، مرتبطون بالكوني، لأن المعاناة الإنسانية واحدة.
ومع ذلك، علينا ألا نستبعد أيضا أن تكون الثقافة المحافظة لجهات الداخل وكثافة الرقابة الاجتماعية هناك لا تجيز مثل تلك الدخلات التي فيها، كما أشير سابقا، جرعات من الجرأة، قد لا تتيحها المناطق الداخلية شكلا ومضمونا.
ومع ذلك، تظل الدخلة حية مربكة وغير متوقعة، محكومة بتفاصيل صغيرة، لا ننتبه إليها، نحن معشر الكهول، خصوصا في ظل مجتمع أنجز ثورةً أغفلت شبابها. تريد الدخلة أن تعبر عن وعي شبابي لم نحسن الإصغاء إليه، فظل يربكنا من حينٍ إلى آخر. إنها شكل من المشاركة في تدبر الشأن العام، ولكن بنحو ومفردات مغايرة، وربما صادمة.
تفيد الدخلة، استناداً إلى اللهجة المحكية التونسية، زفة الليلة الختامية من حفل العرس، حيث ينتقل العروسان إلى منزلة اجتماعية أخرى، ويغادران العزوبية للانضمام إلى عالم المتزوجين. وربما لهذا السبب تحديداً، تم إطلاق هذه الكلمة على طقوس الاحتفالات التي ترافق اختبارات البكالوريا، إذ تعطي هذه الاحتفالات التي هي استعراض شبابي ضخم، تشهده المعاهد الثانوية، إشارة الانطلاق لتوديع مرحلة الثانوي والاستعداد لدخول مرحلة أخرى هي الجامعة، وهي ليست مجرد حقبة عمرية، أو مرحلة دراسية، إنما مشوار حياتي جديد ومختلف عما سبقه. لذلك، كانت الدخلة بهذا المعنى إحدى شعائر العبور.
ما يشدّنا، ونحن نتابع الدخلة، هو هذه القدرة الفائقة والهائلة التي يبديها الشباب التلمذي على تملك الفضاء المدرسي، و"احتلاله" بشكل واضح، حيث يتم تركيز علم الدخلة، وبعض الرايات الأخرى العملاقة، على أعلى البنايات المدرسية، ليصبح فضاءً محرّراً، ولو ساعات، في محاكاةٍ ضمنيةٍ لطقوس الإنزال العسكري الذي تقوم به فرق الطلائع عند احتلال الأماكن المستعصية وتحريرها، وكأن التلاميذ بذلك يثأرون من فضاءٍ يظل سنة كاملة مسخّراً للمربين، إذ يصبح المعهد بهذه الدخلة ملكهم، بعد أن كانوا مجرّد مستعملين له، وفي مساحاتٍ محدودة: الساحة والفصول، فعلى خلاف هذا التضييق، يتم تحرير كل الفضاء المدرسي و"استباحته". لذلك، يصر بعضهم على أن تبدأ الدخلة من تلك الفضاءات الرمزية، ذات القيمة أو "الممنوعة"، على غرار الأسطح وأعلى شرفات المعهد، قاعة الأستاذة إلخ. وقد يتمطط فضاء الدخلة، ليضم مساحاتٍ أخرى، على غرار الواجهات الخارجية للمعهد، أو حتى بعض البناءات المجاورة له.
فنيا ودلاليا، تضم الدخلة محاميل وتعبيرات فنية كبيرة، على شاكلة لوحات عملاقة ورايات
أما محتوى الدخلة ومضامينها، فإنه وعلى الرغم من اختلافها من معهد إلى آخر، ومن جهة إلى أخرى، فإنها ظلت موزعة تقريباً على سجلين كبيرين، هما: السجل السياسي الذي يضم التنديد بكل أشكال الاستبداد والظلم أينما حلت، من خلال مساندة القضية الفلسطينية واللاجئين السوريين وضحايا الإرهاب، وغيرها من المسائل الكونية العادلة.. إلخ، حيث تكشف الدخلة، على خلاف الصور النمطية التي تعوق الباحثين، أن الشباب يرتبط ذهنيا وعاطفيا بقضايا المضطهدين في العالم، وأساسا قضايا العالمين، العربي والإسلامي. وسجل ثان هو القضايا الاجتماعية الأخلاقية التي يطغى عليها الطابع المحلي، على غرار الفقر، البطالة، الخدمات الاجتماعية والصحية والفساد.. إلخ.
يمكن من قراءة عابرة لمجموع اللوحات والشعارات والرايات المرفوعة للدخلة ومحتواها أن
ومع ذلك، علينا ألا نستبعد أيضا أن تكون الثقافة المحافظة لجهات الداخل وكثافة الرقابة الاجتماعية هناك لا تجيز مثل تلك الدخلات التي فيها، كما أشير سابقا، جرعات من الجرأة، قد لا تتيحها المناطق الداخلية شكلا ومضمونا.
ومع ذلك، تظل الدخلة حية مربكة وغير متوقعة، محكومة بتفاصيل صغيرة، لا ننتبه إليها، نحن معشر الكهول، خصوصا في ظل مجتمع أنجز ثورةً أغفلت شبابها. تريد الدخلة أن تعبر عن وعي شبابي لم نحسن الإصغاء إليه، فظل يربكنا من حينٍ إلى آخر. إنها شكل من المشاركة في تدبر الشأن العام، ولكن بنحو ومفردات مغايرة، وربما صادمة.