19 يناير 2024
إصلاح التأمين الصحي والثقافة الأميركية
يدور اليوم جدل كبير داخل الكونغرس الأميركي بشأن قانون الرعاية الصحية، فالمرشح دونالد ترامب كان قد وعد أنه سيلغي برنامج الرعاية الصحية الذي أقرّه الرئيس باراك أوباما، وما زال مطبقا وصالحاً، حيث شمل البرنامج أكثر من 22 مليون أميركي لم يكونوا يحصلون على رعاية مسبقة.
حجة الجمهوريين في إلغاء هذا البرنامج هو الارتفاع الحاد في مبلغ الاشتراك الشهري الذي على العائلة أو الفرد أن يدفعه شهريا لشركة التأمين الصحي، كي يتمكّن من الإبقاء على تأمينه، وفي الوقت نفسه، انعدام المنافسة بين الشركات الصحية المشتركة في هذا البرنامج في ولايات أميركية كثيرة، بحيث أصبح هذا البرنامج أشبه بالاحتكار، وليس قائماً على المنافسة.
بالـتأكيد، هذه الحجج قوية كفاية، كي تقنع الناخب الأميركي بالتصويت للحزب الجمهوري الذي جعل من فكرة إلغاء التأمين الصحي لأوباما شعارا انتخابيا له، ونجحت بشكل كبير في نجاح الرئيس ترامب.
الآن، عندما وصل الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، ويريد إيفاء وعوده الانتخابية الكثيرة التي قطعها، ومنها إلغاء التأمين الصحي، تصاعدت المظاهرات اليومية، حتى في الولايات الجمهورية، خوفا من إلغاء التأمين لملايين الأميركيين. لذلك استبدل الجمهوريون شعار إلغاء التأمين الصحي لأوباما بشعار آخر أو إلغاء ومن ثم استبدال، أي أنه قبل إلغاء التأمين الصحي علينا أن نضع بديلاً له. وهنا، تأتي العقدة التي أخذت من الرئيس أوباما عامين، حتى حلها بشكل جزئي، وبضمان تصويت الديمقراطيين فحسب، إذ لم يصوّت على مشروع التأمين الصحي لأوباما أي عضو جمهوري. وهذا ما لم يحصل في تاريخ الولايات المتحدة، فكل القوانين الرئيسية المتعلقة بالصحة والتعليم والإنفاق الحكومي غالبا ما تحتاج تأييد المعتدلين من الحزبين، لكن الانقسام الحزبي كان على أشده في عهد الرئيس أوباما، فلم يوافق على مشروع الرعاية الصحية لأوباما أي عضو جمهوري في مجلسي الشيوخ والنواب.
الآن، حاول رئيس مجلس النواب، بول رايان، الجمهوري، بالاتفاق مع الرئيس ترامب، تمرير
مشروع جديد للرعاية الصحية، لكنه لم يحصل على تأييد أعضاء حزبه الجمهوري نفسه، فكيف بالمعارضة الديمقراطية، فكيف يمكن إذا حل هذه المعضلة؟ أي كيف يمكن تمرير مشروع جديد للرعاية الصحية، يخفف التكاليف المرتفعة للغاية على الحكومة وعلى المواطنين، وفي الوقت نفسه، يحصل على تأييد المشرّعين في الحزبين، الجمهوري والديمقراطي.
يستحيل تحقيق ذلك اليوم، في أميركا، وفي ظل الانقسام السياسي الشديد السائد بين الحزبين، والأهم من ذلك كله الثقافة المهيمنة على المشرعين. ولذلك ربما كان التأمين الصحي لأوباما آخر وأفضل فرصة ممكنة، ولن يمكن بعدها تعديل هذا المشروع بقانون آخر، إلا مع تغيير جذري في الثقافة الأميركية، وفي رؤية المشرعين لدور الحكومة في السياسة الأميركية.
المشكلة الرئيسية أن الرئيس ترامب قدم وعوداً كبيرة فيما يتعلق بالتأمين الصحي، لا يستطيع تحقيقها، وقد قال، في مؤتمر صحافي، "إنه اكتشف كم أن الأمر معقد للغاية"، فقد وعد بتأمين صحيٍّ يشمل الجميع، وبتكاليف أقل مما عليه تأمين أوباما، وفي الوقت نفسه، ستكون النوعية في الرعاية الصحية أفضل.
لا يمكن جمع ذلك كله في الوقت نفسه، فإذا وضعت النوعية شرطاً، فلن تستطيع تخفيض التكاليف، وإذا طالبت بتأمين صحي يشمل الجميع، على الدولة أن تتحمل كثيراً من تكاليف تغطية هذه الرعاية الصحية من الضرائب التي سيتم تحصيلها من المواطنين، وهو ما لا يتفق معه الجمهوريون، لا المعتدلون منهم، ولا المتشدّدون ممثلين فيما يسمى "Freedom Coccus". وهم الذي منعوا تمرير النسخة الجمهورية من مشروع الرعاية الصحية في مجلس النواب، لأنه يزيد التكلفة الإجمالية التي على الدولة أن تتحملها، وبالتالي، كما يقال لا يمكن جمع البرتقال مع التفاح في معادلةٍ رياضيةٍ واحدة، وهذا ينطبق على وضع التأمين الصحي في أميركا، وهو أن الثقافة الأميركية قائمة على فكرة الفردية المطلقة، والحق في النجاح والاستمتاع بهذا النجاح، حتى من دون حق الدولة في زيادة الضرائب عليك، لأنه يجب ألا تعاقب الدولة بمزيد من الضرائب الذين يحققون نجاحا ماليا، وهم يسهمون، بشكل مباشر أو غير مباشر، في النمو. ولذلك لا وجود لمعاني التضامن أو التكافل، وتحيل مستخدمها فورا إلى معاني الاشتراكية والشيوعية المرذولة بالمطلق في الثقافة الأميركية. ولذلك، لا وجود لمعنى التضامن الاجتماعي القائم على فكرة أن على القادرين ماديا مساعدة غير القادرين، عبر برامج اجتماعية، تقوم عليها الدولة، فالرد المباشر أن الدول الاسكندنافية التي تطبق هذه البرامج لا يمكنها تحمّل هذا البرامج على المدى الطويل، والأهم أنها تأكل من النمو الاقتصادي لهذه المجتمعات التي لا مكان فيها للنجاحات الفردية.
ولذلك، يصح القول إن الرأسمالية في أميركا في أوج ألقها ونجاحاتها، وبالتالي لا أحد يكترث
بتكاليفها الاجتماعية، أو يأخذها بالاعتبار، وإنما يتم التركيز على قصص النجاحات الفردية التي تعتمد، بشكل رئيسي، على الرغبة بالعمل الطويل والصعب، من أجل النجاح في بيئة تشجع المنافسة إلى أبعد حدودها.
ولذلك، يمكن القول إن تحقيق برنامج رعاية صحية جديد يبدو مهمةً شبه مستحيلة، لأنه لن يستطيع جمع المتضادات معا في مشروع قانون واحد، فالمشروع الجمهوري حقق فكرة تخفيف التكاليف الفردية، لكنه لم يحقق فكرة أحقية التكلفة للجميع. وبالتالي، وكما قال خبراء كثيرون إنه فيما لو طبق المشروع الجمهوري، فإن 24 مليونا سيفقدون التغطية الصحية خلال الأربع سنوات المقبلة، وتنطبق المسألة عندما نفكر في تخفيض التكاليف، فإن نوعية المعالجة الصحية ستنخفض بشكل كبير.
ولما كان خيار مسؤولية الحكومة في تقديم الرعاية الصحية عبر بناء المشافي وغيرها يكاد يكون منعدما في الثقافة والسياسة الأميركية، لأنه مرفوض بالمطلق، من بين المشرّعين والسياسيين الأميركيين. وبالتالي، ستبقى مسألة الرعاية الصحية محصورةً بين شركات التأمين الصحي والقطاع الخاص. ولذلك، يبقى دور الحكومة محصورا فقط في "تنظيم" القوانين التي تنظم الشؤون الصحية ووضعها، من دون أن يكون لها دور مباشر في تدبيرها، على الرغم من أن المشاركة الحكومية قد يخفض التكاليف الصحية بشكل كبير للغاية. لكن خوفاً من شبهات "الاشتراكية"، يبدو هذا الخيار بعيداً للغاية، وحتى ضمن الحزب الديمقراطي نفسه، ولا يتبناه سوى أقصى اليسار في الحزب نفسه.
ولذلك، تعكس مسألة التأمين الصحي بشكل كبير الثقافة الأميركية وسياساتها، وهي ليست مسألة صغيرة بكل تأكيد، إذ ترتبط وتتشعب في طريقة نشوء الولايات المتحدة، وفكرة النجاح فيها، وكما أن تغيير الثقافة ليس مسألةً هينةً أو سهلةً أبدا، تبدو مسألة تغيير الرعاية الصحية أشبه بالصراع داخل الثقافة ذاتها.
حجة الجمهوريين في إلغاء هذا البرنامج هو الارتفاع الحاد في مبلغ الاشتراك الشهري الذي على العائلة أو الفرد أن يدفعه شهريا لشركة التأمين الصحي، كي يتمكّن من الإبقاء على تأمينه، وفي الوقت نفسه، انعدام المنافسة بين الشركات الصحية المشتركة في هذا البرنامج في ولايات أميركية كثيرة، بحيث أصبح هذا البرنامج أشبه بالاحتكار، وليس قائماً على المنافسة.
بالـتأكيد، هذه الحجج قوية كفاية، كي تقنع الناخب الأميركي بالتصويت للحزب الجمهوري الذي جعل من فكرة إلغاء التأمين الصحي لأوباما شعارا انتخابيا له، ونجحت بشكل كبير في نجاح الرئيس ترامب.
الآن، عندما وصل الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، ويريد إيفاء وعوده الانتخابية الكثيرة التي قطعها، ومنها إلغاء التأمين الصحي، تصاعدت المظاهرات اليومية، حتى في الولايات الجمهورية، خوفا من إلغاء التأمين لملايين الأميركيين. لذلك استبدل الجمهوريون شعار إلغاء التأمين الصحي لأوباما بشعار آخر أو إلغاء ومن ثم استبدال، أي أنه قبل إلغاء التأمين الصحي علينا أن نضع بديلاً له. وهنا، تأتي العقدة التي أخذت من الرئيس أوباما عامين، حتى حلها بشكل جزئي، وبضمان تصويت الديمقراطيين فحسب، إذ لم يصوّت على مشروع التأمين الصحي لأوباما أي عضو جمهوري. وهذا ما لم يحصل في تاريخ الولايات المتحدة، فكل القوانين الرئيسية المتعلقة بالصحة والتعليم والإنفاق الحكومي غالبا ما تحتاج تأييد المعتدلين من الحزبين، لكن الانقسام الحزبي كان على أشده في عهد الرئيس أوباما، فلم يوافق على مشروع الرعاية الصحية لأوباما أي عضو جمهوري في مجلسي الشيوخ والنواب.
الآن، حاول رئيس مجلس النواب، بول رايان، الجمهوري، بالاتفاق مع الرئيس ترامب، تمرير
يستحيل تحقيق ذلك اليوم، في أميركا، وفي ظل الانقسام السياسي الشديد السائد بين الحزبين، والأهم من ذلك كله الثقافة المهيمنة على المشرعين. ولذلك ربما كان التأمين الصحي لأوباما آخر وأفضل فرصة ممكنة، ولن يمكن بعدها تعديل هذا المشروع بقانون آخر، إلا مع تغيير جذري في الثقافة الأميركية، وفي رؤية المشرعين لدور الحكومة في السياسة الأميركية.
المشكلة الرئيسية أن الرئيس ترامب قدم وعوداً كبيرة فيما يتعلق بالتأمين الصحي، لا يستطيع تحقيقها، وقد قال، في مؤتمر صحافي، "إنه اكتشف كم أن الأمر معقد للغاية"، فقد وعد بتأمين صحيٍّ يشمل الجميع، وبتكاليف أقل مما عليه تأمين أوباما، وفي الوقت نفسه، ستكون النوعية في الرعاية الصحية أفضل.
لا يمكن جمع ذلك كله في الوقت نفسه، فإذا وضعت النوعية شرطاً، فلن تستطيع تخفيض التكاليف، وإذا طالبت بتأمين صحي يشمل الجميع، على الدولة أن تتحمل كثيراً من تكاليف تغطية هذه الرعاية الصحية من الضرائب التي سيتم تحصيلها من المواطنين، وهو ما لا يتفق معه الجمهوريون، لا المعتدلون منهم، ولا المتشدّدون ممثلين فيما يسمى "Freedom Coccus". وهم الذي منعوا تمرير النسخة الجمهورية من مشروع الرعاية الصحية في مجلس النواب، لأنه يزيد التكلفة الإجمالية التي على الدولة أن تتحملها، وبالتالي، كما يقال لا يمكن جمع البرتقال مع التفاح في معادلةٍ رياضيةٍ واحدة، وهذا ينطبق على وضع التأمين الصحي في أميركا، وهو أن الثقافة الأميركية قائمة على فكرة الفردية المطلقة، والحق في النجاح والاستمتاع بهذا النجاح، حتى من دون حق الدولة في زيادة الضرائب عليك، لأنه يجب ألا تعاقب الدولة بمزيد من الضرائب الذين يحققون نجاحا ماليا، وهم يسهمون، بشكل مباشر أو غير مباشر، في النمو. ولذلك لا وجود لمعاني التضامن أو التكافل، وتحيل مستخدمها فورا إلى معاني الاشتراكية والشيوعية المرذولة بالمطلق في الثقافة الأميركية. ولذلك، لا وجود لمعنى التضامن الاجتماعي القائم على فكرة أن على القادرين ماديا مساعدة غير القادرين، عبر برامج اجتماعية، تقوم عليها الدولة، فالرد المباشر أن الدول الاسكندنافية التي تطبق هذه البرامج لا يمكنها تحمّل هذا البرامج على المدى الطويل، والأهم أنها تأكل من النمو الاقتصادي لهذه المجتمعات التي لا مكان فيها للنجاحات الفردية.
ولذلك، يصح القول إن الرأسمالية في أميركا في أوج ألقها ونجاحاتها، وبالتالي لا أحد يكترث
ولذلك، يمكن القول إن تحقيق برنامج رعاية صحية جديد يبدو مهمةً شبه مستحيلة، لأنه لن يستطيع جمع المتضادات معا في مشروع قانون واحد، فالمشروع الجمهوري حقق فكرة تخفيف التكاليف الفردية، لكنه لم يحقق فكرة أحقية التكلفة للجميع. وبالتالي، وكما قال خبراء كثيرون إنه فيما لو طبق المشروع الجمهوري، فإن 24 مليونا سيفقدون التغطية الصحية خلال الأربع سنوات المقبلة، وتنطبق المسألة عندما نفكر في تخفيض التكاليف، فإن نوعية المعالجة الصحية ستنخفض بشكل كبير.
ولما كان خيار مسؤولية الحكومة في تقديم الرعاية الصحية عبر بناء المشافي وغيرها يكاد يكون منعدما في الثقافة والسياسة الأميركية، لأنه مرفوض بالمطلق، من بين المشرّعين والسياسيين الأميركيين. وبالتالي، ستبقى مسألة الرعاية الصحية محصورةً بين شركات التأمين الصحي والقطاع الخاص. ولذلك، يبقى دور الحكومة محصورا فقط في "تنظيم" القوانين التي تنظم الشؤون الصحية ووضعها، من دون أن يكون لها دور مباشر في تدبيرها، على الرغم من أن المشاركة الحكومية قد يخفض التكاليف الصحية بشكل كبير للغاية. لكن خوفاً من شبهات "الاشتراكية"، يبدو هذا الخيار بعيداً للغاية، وحتى ضمن الحزب الديمقراطي نفسه، ولا يتبناه سوى أقصى اليسار في الحزب نفسه.
ولذلك، تعكس مسألة التأمين الصحي بشكل كبير الثقافة الأميركية وسياساتها، وهي ليست مسألة صغيرة بكل تأكيد، إذ ترتبط وتتشعب في طريقة نشوء الولايات المتحدة، وفكرة النجاح فيها، وكما أن تغيير الثقافة ليس مسألةً هينةً أو سهلةً أبدا، تبدو مسألة تغيير الرعاية الصحية أشبه بالصراع داخل الثقافة ذاتها.