02 نوفمبر 2024
بسط النفوذ في سورية بالحرب على المدنيين
لا جديد في المجزرة الوحشية التي استهدفت المدنيين في بلدة خان شيخون السورية، وأودت بعدد يتراوح بين سبعين ومائة ضحية، عدد كبير منهم من الأطفال. بات استهداف المدنيين، وبالذات الأطفال، منهجاً راسخاً، فمن شأن تقتيل الكائنات الضعيفة الصغيرة بثّ الرعب الممزوج باليأس لدى العائلات، ثم لعموم الحاضنة الشعبية للمعارضة. لقد دأب النظام على استخدام هذا الأسلوب، وخصوصا في المراحل التي يعاني فيها من تراجع عسكري أمام المعارضة المسلحة، وبينما تؤدي المواجهة مع فصائل المعارضة إلى وقوع خسائر، فإن استهداف المدنيين يحقّق نتائج مضمونة، وبغير خسائر تذكر في صفوف المعتدين.
كما ليس جديداً أن الحليف الروسي استبسل في الدفاع عن مرتكبي المجزرة، واستبق ذلك بتدمير ما تبقى من مشافٍ ومخابز في إدلب وريفها، وهو أسلوب طالما دأب عليه هذا الحليف (في حلب مثلا)، لحرمان الناس من أسباب الحياة وأولوياتها، ودفعهم إلى النزوح والتشرّد، بعد أن أدرك هذا الحليف أن النصر، كما يرسمه النظام، يتطلب إنقاص عدد السوريين بنسبة كبيرة. وبينما انكبّ الروس، عقب وقوع المجزرة، على اختراع سيناريو يبرئ القتلة ويدين الضحايا، فإن موسكو لم تلبث أن هتفت: وجدتها، حين اخترعت قصفاً للنظام على مخازن أسلحة كيماوية، تمتلكها المعارضة، ما أدى إلى انتشار الغازات السامة! وقد وصف الروس السيناريو الذي وضعوه بأنه "موضوعي وغير منحاز". لكن الموضوعية الخرقاء لم تلبث أن تبدّدت، حين أنكر نائب المندوب الروسي في مجلس الأمن، فلاديمير سافرونكوف، وقوع المجزرة من أساسها، قائلاً إن "الأدلة على وقوعها مزيفة"، وقد وقف العالم مذهولاً أمام الجريمة المروعة، على الرغم من أنها ليست الأولى من نوعها، ثم تجدّد هذا الذهول، حين انبرت دولة كبرى، هي الاتحاد الروسي، للتشكيك في ذكاء البشر ومداركهم العقلية عبر الإنكار، على الرغم من أن جثث الضحايا ما زالت على الأرصفة، وعلى عتبات البيوت، وتشهد على الفظاعة، حيث تبدو المشاهد وكأنها تعيد إنتاج تفجير هيروشيما وناغازاكي في اليابان عام 1945.
لا يبالي نائب المندوب الروسي أبداً بما يحدث، وينكر وجوده، فيما الرسالة الخفية هي أن على العالم الاعتياد على المجازر، والتطبيع معها. إرهاب الدولة الذي تعرّضت له خان شيخون،
ومن قبلها عشرات البلدات السورية، ينكر مرتكبوه وقوعه، ويكرّر الحليف الروسي الإنكار، وهو ما يفسّر أن أركان النظام، ومعهم الإيرانيون والروس، يتفادون، على الدوام، إبداء أي التزامٍ أو تعهدٍ من أي نوع بتجنيب المدنيين ويلات الصراع. إنهم يكادون لا يأتون على ذكر المدنيين وحمايتهم، ويعتبرونهم بلا قيمة، ولا وزن لهم على الإطلاق .
وما دأب عليه النظام من طرح أخلاق الحرب جانباً التقطه الروس، كما فعل الإيرانيون من قبلهم، فكل ما يؤدي إلى تحسين ميزان القوى يتعين فعله، من دون إيلاء أخلاق الحرب أي اعتبار، بل مع ازدراء هذا المبدأ. لهذا، تخصص الأصدقاء الروس بتدمير المخابز والمشافي والأسواق الشعبية، وأحيانا قصف النازحين المشرّدين. وهذه هي طريقتهم المنهجية في مكافحة الإرهاب، مع ثقةٍ مفرطةٍ للغاية بأن استخدام عبارة "مكافحة الإرهاب" سوف يُعطل حواس من يستمع إليها في العالم كله، وخصوصا في "الغرب الساذج".
ولا شك الآن في أن التحدّي المتمادي الذي تشهره موسكو في وجه الأسرة البشرية، في الدفاع عن القتلة، وحرمان الضحايا من نيل حقهم في العدالة، نادر، وقد تخصصت به من قبل الدولة العبرية المحتلة، فلطالما اعترفت قوى استعمارية بما ارتكبت من جرائم وأنكرت أخرى، ولطالما تعهدت بالتوقف عن ارتكابها، أما الأصدقاء الروس فيواظبون بلا توقفٍ عن الطلب من البشر التخلي عن مداركهم، وعن حواسهم، وعن ضمائرهم، وأن يتعاموا عن وقوع الفظائع. ويستعمل الروس، في هذا المعرض، ذرائع من قبيل "سيادة الدول"، وكأن سيادة أي دولة في العالم تجيز لها الفتك بشعبها، وبما تيسر من أبناء الدول المجاورة، أو كأن السيادة تبطل أي عقاب أو مساءلة للفاعلين. وبهذا السلوك، تجري محاولة دفع العالم إلى النكوص إلى الوراء، إلى حقب سابقة على صدور مواثيق حقوق الإنسان وحق تقرير لمصير للشعوب، وحماية المدنيين في الحروب، وقبل أن تتشكل المنظمات الحقوقية، وحتى قبل أن تتشكل منظمة الأمم المتحدة، وقبلها عصبة الأمم. ولذلك، اقترن التدخل الروسي في سورية، منذ زهاء عشرين شهراً، بتصعيد الحرب على المدنيين، وبمشاركةٍ نشطة من طيرانهم الحربي، وتم إغلاق أبواب الحل السياسي، وجرت مباركة النهج الاستئصالي للنظام.
نشرت صحيفة المدن الإلكترونية، يوم 9 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حواراً أجراه مازن
عزّي مع الخبير الروسي مدير معهد كارنيجي-موسكو، ديمتري ترينين، ذكر فيه الخبير، وهو ضابط روسي سابق، أن "الروس في المرحلة بعد السوفياتية لا يسعون إلى نشر مفهوم إيديولوجي، فهم يعتقدون بأنهم جاؤوا إلى "عالم قذر"، ومن الآن فصاعداً ستقوم السياسة على البراغماتية: "لن نُعلّمَ أحدا شيئاً، ولن نأخذ دروساً من أحد. سنقبل العالم كما هو". ويشدّد الخبير على أن بسط النفوذ هو الهدف الأعلى والوحيد للروس حاليا. وينعت القيادة الروسية بأنها "محافظة للغاية، تنظر إلى الثورات على أنها حروب قذرة. وتعتبر أن ثورة عام 1917 هي أسوأ ما حدث لروسيا". ويقول "في نظر النخبة (الحاكمة) اليوم، الثورة بحد ذاتها ليست فعل تحرّر بل فعل تدمير، الثورة تصبح غير قابلة للتلافي، إذا ما عجزت الطبقة الحاكمة عن التكيّف مع التغيّرات في المجتمع. التفكير الروسي الرسمي يعتقد بضرورة التكيّف، وليس من الضروري أن يكون التكيّف ديموقراطياً". وتفيد العبارة الأخيرة بأن واجب السلطات هو التكيف مع التغيرات في المجتمع بقمعها، وهذا هو سر الإعجاب الروسي بنظام دمشق. وفي موضع آخر من الحوار، أوضح الخبير الروسي أن موسكو "كانت معادية للربيع العربي".
وبالعودة إلى الوضع الراهن، ورداً على سؤال إن كانت موسكو ستضبط، في مرحلة ما، الفوضى في سورية، يجيب الخبير الروسي: "لا أبداً. هم لا يريدون ذلك. فالهدف النهائي بالنسبة لروسيا هو الحصول على اعتراف من الولايات المتحدة كقوة نديّة". تكشف المقتطفات الطويلة عن طريقة تفكير القيادة الروسية، وبمقارنتها بالسلوك في سورية وفي أوكرانيا أيضا، يتضح أن موسكو عازمة على أن تفعل كل شيء، وأي شيء، في سبيل بسط نفوذها. مع أقصى استغلال لتخبط الولايات المتحدة في صوغ سياستها في الشرق الأوسط، وأن الحديث الروسي عن وقف إطلاق نار أو حل سياسي هي سلسلة خدع وأساليب تمويه على هدف بسط النفوذ الذي يتطلب خوض معارك النظام الذي يمنح الكرملين فرصة بسط النفوذ بلا قيود.
كما ليس جديداً أن الحليف الروسي استبسل في الدفاع عن مرتكبي المجزرة، واستبق ذلك بتدمير ما تبقى من مشافٍ ومخابز في إدلب وريفها، وهو أسلوب طالما دأب عليه هذا الحليف (في حلب مثلا)، لحرمان الناس من أسباب الحياة وأولوياتها، ودفعهم إلى النزوح والتشرّد، بعد أن أدرك هذا الحليف أن النصر، كما يرسمه النظام، يتطلب إنقاص عدد السوريين بنسبة كبيرة. وبينما انكبّ الروس، عقب وقوع المجزرة، على اختراع سيناريو يبرئ القتلة ويدين الضحايا، فإن موسكو لم تلبث أن هتفت: وجدتها، حين اخترعت قصفاً للنظام على مخازن أسلحة كيماوية، تمتلكها المعارضة، ما أدى إلى انتشار الغازات السامة! وقد وصف الروس السيناريو الذي وضعوه بأنه "موضوعي وغير منحاز". لكن الموضوعية الخرقاء لم تلبث أن تبدّدت، حين أنكر نائب المندوب الروسي في مجلس الأمن، فلاديمير سافرونكوف، وقوع المجزرة من أساسها، قائلاً إن "الأدلة على وقوعها مزيفة"، وقد وقف العالم مذهولاً أمام الجريمة المروعة، على الرغم من أنها ليست الأولى من نوعها، ثم تجدّد هذا الذهول، حين انبرت دولة كبرى، هي الاتحاد الروسي، للتشكيك في ذكاء البشر ومداركهم العقلية عبر الإنكار، على الرغم من أن جثث الضحايا ما زالت على الأرصفة، وعلى عتبات البيوت، وتشهد على الفظاعة، حيث تبدو المشاهد وكأنها تعيد إنتاج تفجير هيروشيما وناغازاكي في اليابان عام 1945.
لا يبالي نائب المندوب الروسي أبداً بما يحدث، وينكر وجوده، فيما الرسالة الخفية هي أن على العالم الاعتياد على المجازر، والتطبيع معها. إرهاب الدولة الذي تعرّضت له خان شيخون،
وما دأب عليه النظام من طرح أخلاق الحرب جانباً التقطه الروس، كما فعل الإيرانيون من قبلهم، فكل ما يؤدي إلى تحسين ميزان القوى يتعين فعله، من دون إيلاء أخلاق الحرب أي اعتبار، بل مع ازدراء هذا المبدأ. لهذا، تخصص الأصدقاء الروس بتدمير المخابز والمشافي والأسواق الشعبية، وأحيانا قصف النازحين المشرّدين. وهذه هي طريقتهم المنهجية في مكافحة الإرهاب، مع ثقةٍ مفرطةٍ للغاية بأن استخدام عبارة "مكافحة الإرهاب" سوف يُعطل حواس من يستمع إليها في العالم كله، وخصوصا في "الغرب الساذج".
ولا شك الآن في أن التحدّي المتمادي الذي تشهره موسكو في وجه الأسرة البشرية، في الدفاع عن القتلة، وحرمان الضحايا من نيل حقهم في العدالة، نادر، وقد تخصصت به من قبل الدولة العبرية المحتلة، فلطالما اعترفت قوى استعمارية بما ارتكبت من جرائم وأنكرت أخرى، ولطالما تعهدت بالتوقف عن ارتكابها، أما الأصدقاء الروس فيواظبون بلا توقفٍ عن الطلب من البشر التخلي عن مداركهم، وعن حواسهم، وعن ضمائرهم، وأن يتعاموا عن وقوع الفظائع. ويستعمل الروس، في هذا المعرض، ذرائع من قبيل "سيادة الدول"، وكأن سيادة أي دولة في العالم تجيز لها الفتك بشعبها، وبما تيسر من أبناء الدول المجاورة، أو كأن السيادة تبطل أي عقاب أو مساءلة للفاعلين. وبهذا السلوك، تجري محاولة دفع العالم إلى النكوص إلى الوراء، إلى حقب سابقة على صدور مواثيق حقوق الإنسان وحق تقرير لمصير للشعوب، وحماية المدنيين في الحروب، وقبل أن تتشكل المنظمات الحقوقية، وحتى قبل أن تتشكل منظمة الأمم المتحدة، وقبلها عصبة الأمم. ولذلك، اقترن التدخل الروسي في سورية، منذ زهاء عشرين شهراً، بتصعيد الحرب على المدنيين، وبمشاركةٍ نشطة من طيرانهم الحربي، وتم إغلاق أبواب الحل السياسي، وجرت مباركة النهج الاستئصالي للنظام.
نشرت صحيفة المدن الإلكترونية، يوم 9 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حواراً أجراه مازن
وبالعودة إلى الوضع الراهن، ورداً على سؤال إن كانت موسكو ستضبط، في مرحلة ما، الفوضى في سورية، يجيب الخبير الروسي: "لا أبداً. هم لا يريدون ذلك. فالهدف النهائي بالنسبة لروسيا هو الحصول على اعتراف من الولايات المتحدة كقوة نديّة". تكشف المقتطفات الطويلة عن طريقة تفكير القيادة الروسية، وبمقارنتها بالسلوك في سورية وفي أوكرانيا أيضا، يتضح أن موسكو عازمة على أن تفعل كل شيء، وأي شيء، في سبيل بسط نفوذها. مع أقصى استغلال لتخبط الولايات المتحدة في صوغ سياستها في الشرق الأوسط، وأن الحديث الروسي عن وقف إطلاق نار أو حل سياسي هي سلسلة خدع وأساليب تمويه على هدف بسط النفوذ الذي يتطلب خوض معارك النظام الذي يمنح الكرملين فرصة بسط النفوذ بلا قيود.